'' أيها العجوز إنما أنت تخدعنا بكلامك الكثير وعباراتك المسمومة.. سترى أن شعب إسرائيل يركع تحت قدمي الإله الوحيد والأوحد في الأرض وفي السماء ملك الآشوريين العظيم.. سنسيقك لهؤلاء الذين دافعت عنهم لتبقى معهم وحين ندخل فاتحين منتصرين ستهلك بسيفي لتعلم أنني أنا القائد اليفانا وتخر ساقطا بين موتى إسرائيل الذين مجدتهم ومدحت إلههم أمامنا'' أمر اليفانا عبيده فوثقوا العجوز وساقوه إلى حتفه مصفر الوجه مرتعد الفرائض... ساروا به في الصحراء إلى أن وصلوا الجبال فانحازوا و ربطوه بشجرة ثم عادوا... نزل أحد الحراس بالجبل ففك وثاقه وساقه لحبرهم الذي أقامه في وسط الشعب ليخبرهم ما وقع... حكى العجوز وحكى فخر الشعب ساجدا متضرعا لإلههم '' إننا متذللون فراعنا... انظر يا إلهنا وإله آبائنا لعتوهم و انظر لتذللنا... لا تغفل عنا بحرمة القديسين و ارحمنا برحمتك يا من نجى آباءنا من استعباد فرعون... إنا متوكلون عليك و هم متوكلون على أنفسهم فلا تذرنا ونحن الضعفاء'' صلى الشعب و بكوا وتضرعوا لربهم في حين كان اليفانا يزحف بعسكره مقتربا من الجبال... جاء وقد أعد العدة والعتاد.. جنود قدموا من أركان الأرض تكاد الشمس تختفي خلفهم.. أقدامهم حركت صخور الجبال وأصواتهم مزقت الصمت... كلهم متأهبين لمقاتلة شعب الرب الذي اختار إلها واحدا بدل مئات الآلهة... من مدينتهم رأى بنو إسرائيل الجنود وقد أحاطوا بالجبال من كل أركانها.. خروا على الأرض من جديد وحثوا الرماد على رؤوسهم مبتهلين متضرعين متذللين لعل الرب يشفق من حالهم ويحدث أمرا... قام كل منهم وحمل سلاحه ثم رابضوا بمضايق الجبال حارسين ليل نهار... مضى اليفانا يتطلع ويستكشف الفجاج والمضايق فوجد عين ماء لا تنضب تروي أهل المدينة المتحصنة بالجبال فقطعها وترك بعض الجنود يحرسونها... لما عاد وجد بعضا من القواد الذي أعلنوا له الطاعة والخضوع فشاروا عليه مشورة جعلت ابتسامة المكر ترتسم على وجهه.. '' أيها القائد العظيم إن هذا الشعب لن يستسلم بسهولة ولا قبل لهم بالحرب فهو ليسوا بشعب محارب.. إن الجبال تحصنهم والسهول تصعب الدخول لمدينتهم... لتظفر بهم فاقطع كل العيون والينابيع التي منها يستقون.. أذلهم بالعطش ونحن سنرسل بعضا من جنودنا على رؤوس الجبال ليمنعوا كل رجل من المرور حتى لا يجلب مؤونة لأهله فإما يهلكون جوعا وعطشا وإما يسلمون المدينة ويسجدون للملك الإله.'' بعد عشرين يوما من قطع المياه على المدينة، جفت الينابيع وتشققت حيطان الآبار، فرغت الأحواض وبدأ العطش يستولي على الناس بعد أن صاروا يسقون بمقدار محدد... هلك من الصبيان عدد و من بقي انهار على الطرقات لا يقدر على الوقوف من شدة الضعف.. حينها اجتمع القوم على حبرهم ولاموه بعد أن كانوا يؤيدوه وعزوا ضعفهم إلى قلة حيلته وعدم تبصره '' يحكم الرب بيننا وبينكم لو أنك رضيت بأن تسلم المدينة لما وقعنا في هذا الشر... لأن نسبح للرب ونحن أحياء خير من ملاقاته منكسرين والعار يجلل رؤوسنا بعد أن نشاهد نساءنا تُستحيى وأبناءنا تذبح...باعنا الله إلى أيدي الآشوريين.. يا ويلنا ويا قرحنا.. سلم المدينة للعدو ولا تتركنا نهلك بالعطش فخير لنا السيف..'' أظلمت الدنيا في أعينهم واقشعرت أبدانهم... رثت النساء ومن رثوهم أحياء وبكى الرجال أقاربهم وهم بينهم وقوف... عم الحزن وارتفعت الأكف من جديد تتضرع وتبكي... '' نحن مخطئون يا رب إبراهيم... عاقبنا ولا تسلمنا للعدو... رضينا بعقابك لكن لا تجعلنا ذليلين لغيرك.. لا تسلمنا نحن من نعبدك لشعب لا يعرفك لكيلا يستهزؤوا بنا ويسألونا أين إلهكم..'' فاضت دموع الحبر وبكى معهم ثم عزاهم بأن قال لهم: '' قوموا يا إخوتي وكفوا عن السوداوية لننتظر هذه الأيام الخمسة لعل الرب يكف غضبه ويمجد اسمه.. فإذا انقضت الأيام ولم يحدث شيء سلمنا المدينة وأنفسنا.'' قال كلامه وفرق الرجال بين حراس على طول سور المدينة أو على أبراجها في حين مضت النساء والأطفال لحال سبيلهم.. غرقت المدينة في الصمت الحزين الذليل.. من بين النساء العائدات لبيوتهن كانت أرملة اسمها يهوذيت... أرملة منذ ثلاث سنين ونصف.. هلك زوجها ودُفِن بالمدينة المحصنة بعد أن قتله الحر أيام الحصاد... منذ وفاة بعلها وهي تصوم أيام السنة ما عدا تلك المقدسة.. نذرت نفسها للرب ولم تزل المسوح من تحت ثياب الحزن التي لم تزلها... زادتها مسحة التقوى جمالا وثياب الحزن إغراء.. جمالها يقارن بجمال العذارى وهي الأرملة التي ترك لها زوجها ما يغنيها عن باقي الناس طيلة عمرها، فلها من الخدم والحشم ما يماثله من الماشية التي ترعى كلأ أراضيها الخصبة... رغم جمالها الأخاذ وعيشها دون ذكر تستند عليه فإن أحدا لم يشر لها بسوء أبدا لأنها امرأة صلاح وتقوى صارمة لا تقبل المزاح... لما سمعت كلام الحبر مضت لبيتها إلا أنها عادت من منتصف الطريق و سارت نحو شيخين من شيوخ المدينة وجدتهما مع الحبر... '' اسمعوني يا حكماء المدينة، إن الكلام الذي نطق به الحبر اليوم ليس بالصائب ولا بالمقبول.. كيف لكم أن تحددوا أجلا محددا لرحمة الرب بنا... أ وتختبرون الرب؟ ... إن كلامكم إنما هو جالب للسخط وليس الرحمة... أو تضعون الإله ندا لكم حتى تحاولوا فهم مقاصده وتضربون موعدا لرحمته.. إن لم نكن نحن البشر المخلوقات الآثمة نستطيع معرفة دواخل أنفس بشر مثلنا.. لا نعرف إلا ما يطلعوننا به ولا سبيل لقراءة مكنونات نفسهم ولا استكشاف دواخلها كيف لنا أن نجعل الرب، خالق البشر، في هذه المنزلة ونخمن ما يريد بل ونختبره ونضرب موعدا لرحمته... غضب الرب ليس كغضب الإنسان ولا استطاعة لنا بمعرفة تدبيره وحكمته.. فصلوا للرب واتقوا شره الذي سيجلبه كلامكم هذا.. صلوا بتواضع فحتى لو لم يمد لنا الرب العون خلال هذه الأيام الخمس فهو بقادر على جعلنا صامدين أياما أكثر وقادر كذلك على تسليمنا للعدو في أي وقت أراد... لنصل خاشعين باكين كما اضطربت قلوبنا بتكبرهم.. إن عاقب الرب آباءنا فيما مضى فلإنهم تركوه ومضوا عنه لعبادة آلهة مزيفة أما نحن فلم نعرف ربا غيره وبهذا سنسلم من سيف العدو... ابتهلوا للرب القادر على الانتقام لشعبه وسفك دماء عدوه.. إننا نحن أبناء المدينة المحصنة إن استسلمنا فكل بلاد إسرائيل ستنهار ومعبد الرب في أورشليم سيخربه الوثنيون.. إن سلمنا أنفسنا فآثام شعبنا ستثقل رقابنا وحتى لو كتب لنا العيش فالعار هو ما سيرافقنا أبد الدهر.. أيها الشيوخ إنكم صوت الرب في الشعب فعزوهم وذكروهم بابتلاءات الآباء الأوائل.. أخبروهم أن من صبر لاختبار الرب فهو مبارك ومن لم يقبل الابتلاء كان الهلاك نصيبه... إن الرب لا يعذبنا بل هو اختبار منه لنا فاصبروا على الاختبار.. اصبروا تنالوا وإلا فالويل لشعب الرب من غضبه." كان صوت يهوذيت صارما جافا واعظا مرشدا فتقواها شدت عضدها وإيمانها آزرها ووهب كلماتها هيبة نزلت كالسكينة على شيوخ المدينة فباركها الحبر وقال '' لا عيب في كلامتك يا بنية والحق كله معك.. صلي من أجلنا أيتها القديسة... صلي من أجب الشعب لعل السماء تبكي معنا وتنزل ماءا يروي عطشنا..'' '' كما اعترفت بصحة كلامي وبأنه من الرب آت فاعلموا أنني عزمت النية على أمر هداني له الرب وسيظل هذا الأمر حكاية في بني إسرائيل جيلا بعد جيل... سيروا معي هذه الليلة إلى أسوار المدينة سأمضي أنا ووصيفتي.. لا تسألوا ما الأمر الذي اعتزمت ولا تبحثوا فيه فقط صلوا من أجلي ومن أجل أن يتفقد الرب شعبه.'' " ليكن الرب معك وليجعلك أداة انتقام تحيي مجده.'' كانت ساعة تقديم بخور بمعبد أورشليم حين خرت '' يهوذيت'' بمعبدها وقد لبست مسوحها وحثت الرماد على رأسها وهي تصرخ: '' أيها الرب إله آبائي، يا من عاقب قوما بسبب تدنيسهم عذراء.. أيها الرب يا من جعل نساء العدو غنيمة وبناتهم سبايا لأولئك الذين غاروا على حرماته ودافعوا عنها.. أتوسل إليك أيها الرب أنا الأرملة أن تعينني.. إن الماضي من صنعك وكذلك الحاضر والمستقبل، فما صار إنما هو بأمرك وما يصير بتخطيط ولا سيصير فهو بمشيئتك.. ما أردته كان فكل طرقك مهيأة وأحكامك عادلة... إن الآشوريين اعتدوا بقوتهم وأعدادهم الهائلة... لقد عولوا على الرمح والسيف... وضعوا أملهم في الدرع والرماح والتروس لم يعلموا أنك أنت الرب كاسر شوكة المحاربين...انظر إلى تكبرهم وأنزل غضبك عليهم كما أنزلته على المصريين الذين اعتدوا بمراكبهم ولحقوا بآبائنا فأخرست أصواتهم وأطبقت البحر عليهم... بارك يد الأرملة حتى تحقق ما في نفسها... انفخ في صورتي لأوقعه في الفخ ...اجعل عذوبة لساني تفرق بين الرئيس ومرؤوسيه بين العبد وسيده بين القائد وجنوده... اجعل يا رب إسرائيل هلاكه على يدي امرأة.. لأن القوة ليست في العدة ولا العتاد بل القوة فيك يا رب المتواضعين وإله الضعفاء... ارفع ذراعك يا إله إسرائيل وأنزل غضبك على من يريدون تدنيس بيت الرب واستعباد شعبه... يا خالق السماوات والأرض والماء اسمع صلاتي أنا الذليلة الخاضعة إليك.. اذكر ميثاقك وعهدك مع بني إسرائيل واجعل الشعوب تعلم أنك أنت الأول والآخر..''
فرغت الأرملة من صلاتها فقامت ونادت وصيفتها... نزلتا لغرفتها، المتشحة بالحزن كصاحبتها، أزالت عنها مسحها وثوب حزنها... غطست جسدها في الماء واستحمت كأنها عروس ستزف لعريسها أو قربان يستعد أن يضحي بنفسه لإله.. كعروس النيل وهي تتطيب بالعطور لتغرق، تطيبت يهوديت بزيوت عطرة وارتدت ملابس فرحها، التي تركت بعد وفاة بعلها، كما انتعلت حذاء وتزينت بخلاخل وأسوار، أقراط وخواتم.. زينت رأسها بتاج بعد أن فرقت شعرها ثم ارتدت حزامها.. نزلت السكينة عليها فزادتها بهاء.. حملت الوصيفة مؤونة من الزاد القليل والمسموح لبنت إسرائيل بأكله ثم مضتا نحو باب المدينة...كان شيوخ المدينة في انتظارهما.. بهتوا لما رأوا الأرملة وقد أزالت ملابس حزنها.. كان جمالها مغريا ورهيبا.. به مسحة من النور الإلهي... جمال امرأة تحمل مصير شعب على كتفيها... باركوها ودعوا من أجلها ثم أمروا الحراس أن يفتحوا للمرأتين الباب وهم يرددون: ''نصلي لإله آبائنا بأن يمنحك نعمة ويؤيد رأيك بقوته لتكوني فخر أورشليم ويكون اسمك مع الأمهات القديسات. آمين''تتبعها الحراس بنظراتهم وهي تنزل من المدينة المحصنة نحو الوادي.. شيعوها بنظاراتهم ودعواتهم إلى ان اختفت في الظلام الذي آذن بالانتهاء وانبلج الصبح مع وصلوها لمعسكر الآشوريين فبدت كإلهة نزلت من السماء تتبعها كاهنتها المقوسة الظهر...'' من أي البلاد أنت ولأين أنت ذاهبة؟ من تكونين أيتها الغريبة؟''سأل حراس المعسكر وقد شدتهم بجمالها ورقتها.'' إني عبرانية من بنات إسرائيل لكنني فررت منهم بعد أن تبين لي ضعفهم وتأكدت من انهزامهم.. أريد لقاء القائد اليفانا لأخبره بأسرار المدينة المحصنة ومن أي الفجاج يسلك حتى يباغتهم ويظفر بهم دون أن يهدر دم رجل واحد من رجاله... جئت فارة من شعبي لأحظى بالأمان عندكم.'''' حسنا فعلت.. لا تخشي شيئا وما عليك إلا أن تعيدي هذا الكلام أمام القائد اليفانا فهو سيحسن إليك... سنبعث معنا رجالا ليوصلوك إلى خيمة القائد.''
Comments