top of page

ورع ارملة: الحلقة الثالثة و الاخيرة

فرغت الأرملة من صلاتها فقامت ونادت وصيفتها... نزلتا لغرفتها، المتشحة بالحزن كصاحبتها، أزالت عنها مسحها وثوب حزنها... غطست جسدها في الماء واستحمت كأنها عروس ستزف لعريسها أو قربان يستعد أن يضحي بنفسه لإله.. كعروس النيل وهي تتطيب بالعطور لتغرق، تطيبت يهوديت بزيوت عطرة وارتدت ملابس فرحها، التي تركت بعد وفاة بعلها، كما انتعلت حذاء وتزينت بخلاخل وأسوار، أقراط وخواتم.. زينت رأسها بتاج بعد أن فرقت شعرها ثم ارتدت حزامها.. نزلت السكينة عليها فزادتها بهاء.. حملت الوصيفة مؤونة من الزاد القليل والمسموح لبنت إسرائيل بأكله ثم مضتا نحو باب المدينة...كان شيوخ المدينة في انتظارهما.. بهتوا لما رأوا الأرملة وقد أزالت ملابس حزنها.. كان جمالها مغريا ورهيبا.. به مسحة من النور الإلهي... جمال امرأة تحمل مصير شعب على كتفيها... باركوها ودعوا من أجلها ثم أمروا الحراس أن يفتحوا للمرأتين الباب وهم يرددون: ''نصلي لإله آبائنا بأن يمنحك نعمة ويؤيد رأيك بقوته لتكوني فخر أورشليم ويكون اسمك مع الأمهات القديسات. آمين'' تتبعها الحراس بنظراتهم وهي تنزل من المدينة المحصنة نحو الوادي.. شيعوها بنظاراتهم ودعواتهم إلى ان اختفت في الظلام الذي آذن بالانتهاء وانبلج الصبح مع وصلوها لمعسكر الآشوريين فبدت كإلهة نزلت من السماء تتبعها كاهنتها المقوسة الظهر... '' من أي البلاد أنت ولأين أنت ذاهبة؟ من تكونين أيتها الغريبة؟'' سأل حراس المعسكر وقد شدتهم بجمالها ورقتها. '' إني عبرانية من بنات إسرائيل لكنني فررت منهم بعد أن تبين لي ضعفهم وتأكدت من انهزامهم.. أريد لقاء القائد اليفانا لأخبره بأسرار المدينة المحصنة ومن أي الفجاج يسلك حتى يباغتهم ويظفر بهم دون أن يهدر دم رجل واحد من رجاله... جئت فارة من شعبي لأحظى بالأمان عندكم.'' '' حسنا فعلت.. لا تخشي شيئا وما عليك إلا أن تعيدي هذا الكلام أمام القائد اليفانا فهو سيحسن إليك... سنبعث معنا رجالا ليوصلوك إلى خيمة القائد.'' مضت الأرملة ووصيفتها بالمعسكر محاطتان بالغفر وقد سبقت كلماتها خطواتها في المعسكر فالتم حولها العساكر وكلهم مندهشون بجمالها متهامسين وصارخين '' لأجل هذا الجمال نحارب العبرانيين لنظفر ببناتهم''... وقفت يهوديت أمام الخيمة المنسوجة من الحرير والقطيفة والمزينة بالجواهر والأحجار الكريمة حيث القائد يرتاح.. لما سمع بقدومها قام من مكانه وخرج لملاقاتها.. على عتبة الخيمة الحمراء حيث المشاعل الفضية التي لم ينقطع دخانها بعد وقف بقامته الطويلة كأنه نحت يجسد أحد الآلهة... أحاط به مستشاروه ولم رأته يهوديت انحنت وسجدت فوق الأرض قبل أن ينهضها العبيد بأمر سيدهم. '' لا تخشي شيئا يا امرأة.. لتطب نفسك.. تشجعي وأفصحي بما لديك فأنا لم أضر قط بشخص بصف ملك الآشوريين.. لولا أن شعبك احتقره وقرر العصيان وشق ثوب الطاعة لما كنت بهذه الشدة والقسوة.. الآن تحدثي وأخبريني ما سبب فرارك من شعبك.. قيل لي أنك تبغين النجدة وأتيت لإنقاذ نفسك.. قري عينا فأنت هنا بأمان هذه الليلة والليالي التي تليها.'' كان يكلمها برقة ولطف ما تظنهما صادرتان عن قائد عنيف مثله إلا أن اليهودية وقعت في قلبه وأسرها جماله. '' اسمع إذن أقوال أمتك، فإذا اتبعت أقولها يتم لك النصر... مبارك ملك الآشوريين، ملك الأرض كلها.. لتحيى قوته المتجلية فيك لأنه بعثك لتؤدب كل الأحياء.. ليسوا فقط البشر من يخدموه بفضلك بل حتى حيوانات الفلاة انصاعت له بأمرك وبذكائك وحسن تدبيرك المشهور بكل الأقاليم.. سمعنا عنك وعن بطولتك أيها المحارب... وصلنا ما باستطاعتك عمله في الحروب.. إن الشيخ الذي تركته بالوادي حكى لنا ما أخبرك.. دعني أخبرك أن كلامه كلام صواب وحقيقة.. إن شعبي لم يهزمه سيف ولا رمح إلا إذا كان مسلطا بغضب الإله إلهنا.. وما رعب الإسرائيليين منك إلا لعلمه بأنه جلبوا لعنة الإله عليهم وحل غضبهم فوق رؤوسهم... لقد استولى بهم العطش حتى قرروا ذبح أنعامهم ليشربوا دمها.. إنهم استحلوا قرابين الهيكل وقرروا استهلاكها.. قرابين لا يحل لهم حتى لمسها باليد.. لقد لُعن شعبي من جديد ولا ينتظرون إلا اليوم الذي سيسلمك الرب مفاتيح مدينتهم وها أنا اليوم والآن أهبك هاته المفاتيح بعد أن علمت بما حصل وفررت لأسلط عذاب الرب عليهم على يديك... ها أنا ذا أمتك أيها القائد. أمتك المؤمنة برب إسرائيل والتي تصلي له صباح مساء أطلب أن أبقى بجوارك هذه الأيام على أن تسمح لي بالخروج لسفح الجبل حتى أصلي وأناجي الرب الذي سيبعث لي بإشارة ويخبرني بموعد حلول العذاب على شعبه.. حينها فقط يمكنك أن تمضي بجيشك ولن يمسك واحد منهم... حينها فقط ستظفر بهم... عندها سأمضي بمركبتك إلى وسط أورشليم.. ستسوق شعب الرب كالغنم بلا راع.. ستسوقهم دون أن تسمع نباح كلب واحد.. ستسوقهم وكأنك تملكهم ... كل هذا رأيته وأخبرني به الرب لذلك فقد أتيت لأحقق مشيئته.'' ''أنى تكون امرأة بهذا الجمال والحكمة والفصاحة.'' تعجب المستشارون والقواد أما القائد اليفانا فابتسم إعجابا وفخرا ثم وعدها: ''إلهك فعل حسنا بإرسالك إلينا لتكون القوة بيدنا والهلاك لمن عصوا ملك الآشوريين... أما أنت أيتها العبرانية الجميلة فإن أتممت ما قلته الآن وتحقق، إلهك سيصير إلهي وستعيشين كل عمرك في رفاهية وترف بقصر ملك الآشوريين العظيم.'' أمر القائد بأن تستقر يهوديت بغرفة خزائنه وأن يحضر لها ما لذ وطاب من أكل وخمر، فاعترضت بأدب وعللت رفضها: '' أشكر حسن صنيعك يا سليل الكرم والجود إلا أنني أمتنع عما لم يكن مسموحا بأكله في ديني حتى لا أخطئ ولا يصغي الرب لصلواتي.. لقد تزودت بما يكفيني وما هو مسموح به في شريعتي.'' '' وماذا نحن فاعلون إن انقضى زادك؟ أنى لنا البحث عما هو مسموح به في دينك ولا يوجد بجيشنا واحد من العبرانيين؟'' ''قر عينا أيها القائد فإن أمتك لن تنهي زادها إلا وقد تحقق ما جئت من أجله... ما اطلبه هو أن تسمح لي بالخروج للصلاة في جوف الليل لأتضرع وأنجي الرب إلهي'' سمح لها القائد بالخروج للصلاة فكانت طيلة ثلاث ليال تخرج للنبع تغتسل وتتخذ من سفح الجبل مكانا للصلاة والتضرع.. صلت مطولا لأن يرشدها الرب إلى طريق حتى تخلص شعبها.. مضت أيامها الثلاث بين الصلاة والتضرع وبين المكوث طاهرة في الخيمة لا تأكل من زادها إلا القليل كل مساء إلى أن حلت الليلة الرابعة... ليلة باركتها السماء فجعلتها دافئة تشرح النفس وتجعلها ميالة للسرور.. قرر فيها القائد إقامة حفل للمقربين من خدمه، لم يحضره أحد سوى أقرب المقربين له.. طربت أنفسهم بالعزف وامتلأت بطونهم بالأكل كما دندنت كؤوس الخمر في عقولهم... زال كل تكليف وتعرت النفس المخبأة تحت أردية الحرب... أمر القائد مخصيا من أمناء خيمته بأن يحضر العبرانية: ''اذهب إذن واقنع ابنة العبرانيين بأن تأتي لمجلسنا، إنه لعيب وعار عند كل آشوري أن تكون أمامه امرأة بهذا الجمال ولا يظفر منها بشيء، إنها حتى لتسخر منه وتشكك في رجولته.. اذهب وأحضرها'' مضى العبد بخفة إلى حيث الأرملة المتعبدة. '' أيتها الآمة الصالحة، أيتها الجميلة لا تستحيي وتعالي انضمي لمائدة سيدي القائد حتى تشاركيه كأس خمر وتطربي بمائدة السرور حتى تكون لك مكانة بين بنات آشور.'' '' ومن أنا حتى أخالف رغبة سيدي. كل ما يرديه مولاي فإني ساعية لتحقيقه.. كل ما يحبه مولاي فإني سروري يكون بتحقيقه.'' قامت يهوديت ووضعت كل زينتها عليها ثم ارتدت ملابس سرورها وخرجت لملاقاة القائد بخيمته بعد أن سبقتها وصيفتها.. كالملاك دخلت بل وكعشتار تجلت.. أيقظت الشهوة الخامدة كنار تحت رماد في قلب اليافا.. راودته رغبة عارمة بمطارحتها الغرام.. مذ أن رآها والفكرة تلح عليه إلا أنها الآن اتقدت ولم يعد يستطيع كبحها. ''اشربي وشاركينا الفرح.'' '' أشرب عن طيب خاطر وتفرح نفسي لأني في هذه المكانة العظيمة... عظمت نفسي أكثر من أي يوم في جميع حياتي'' أخذت مما حضرته وصيفتها التي سبقتها، أكلت وشربت في حضرته فانشرحت نفسه وطربت بهذا التقدم فزاد في شربه للخمر وتدفقت الكؤوس متتالية.. شرب كما لم يشرب طيلة حياته. لَيّل الليل واشتد ظلامه فبدا للمقربين أنها الساعة المناسبة للانسحاب حتى يتركوا قائدهم ينعم بالأنس مع ضيفته.. مضوا كلهم وبقي الخصي حتى تأكد من رحيل الجميل فأغلق الخيمة وأرسل حراسها حتى يتمتع سيده بالحرية المطلقة ويغزو العبرانية قبل أن يغزوا أرضها.. بقيت يهوديت وحدها بالمخدع.. أرسلت وصيفتها أن تبقى بمكانها وتترقب، أما هي فتقدمت نحو السرير البيضاء ملاءته والحمراء أرديته.. كان القائد منهكا بالخمر فاتكأ حيثما اتفق فوق سريره وسرحت عيناه غائبتان عن الوعي...واقفة أمام السرير بدموع تسيل أنهارا وقلب يهتز كأنما حل به زلزال، صلت يهوديت لإلهها: ''أيها الرب أيدني في هذه الساعة وأعطي يداي القوة لتقوم أورشليم ويرتفع ذكرك بها... أدر بنظرك ناحيتي وشد عضدي لأنها ساعة الانتقام من العدو يا إلهي '' تلت صلاتها أمام السرير ثم دنت من أحد أعمدته واستلت سيقا معلقا عليه... أمسكت شعر رأسها.. ربما شعر بها وظن أنها تداعبه فارتخى سائر جسده واستعد لليلة من المتعة.. جرت شعره لكنه لم يحس.. همست ''أيدي يا رب إسرائيل في هذه الساعة وانظر عملي.''... ضربت عنقه مرتين... توقف قرع الطبول في قلبها... سمع الرب نداءها فمد يدها بقوة مئة رجل... لم تجزع ولم تخش شيئا.. أحست بالسيف وهو يخترق طبقات الجلد ليحز الحنجرة وتنفجر الدماء ملوثة كل البياض أسفلها.. للحظة فتح عينيه واستيقظ.. تململ وضرب بقدميه.. ضربات الأضحية المقدمة أمام مذبح الرب.. ضربات النهاية والاستسلام.. لم يدر ما حل به.. حزت رأسه عن جسده... أمام المخدع كانت الوصيفة واقفة مستعدة لتلقي الرأس وجمعها كمن تجمع أواني الأكل... في نظراتها مزيج من المتعة والحقد.. مزيج من الهيبة والخوف... رأت الموت مرات عديدة لكنها لم تره أبدا بهذه الحمرة القانية وهذه النهاية المرعبة... خرجت الاثنتان من الخيمة، كعادتهما وقت الصلاة، بعد أن حملتا الرأس ومعها رداء السرير الأحمر ومضتا نحو السفح ثم منه إلى الوادي الذي دارتا حوله لتصلا أبواب المدينة وهما تصرخان: ''افتحوا، افتحوا إن الرب معنا وقد أجرى قوته في بني إسرائيل... نجاهم وأنقذهم كما يفعل دائما.'' فُتحت الأبواب وجاء شيوخ المدينة كما التم أهلها الذي فقدوا الأمل في أن تعود الأرملة الورعة منتصرة.. كثر اللغط من حولها فصعدت مكانا مرتفعا وانتظرت حلول الصمت لتخرج الرأس من الثوب... جفت الدماء حول الجيد لكن القطرات بقيت متلألئة حول قصبة الحنجرة... ابيضت سحنته إلا أن الخوف لم يختف من ملامحها... على ضوء المصابيح بدا اصفراره أوضح وما كان أحد ليصدق أن هذا هو القائد الهمام الذي خضعت له كل الأقاليم... صرخ الشيخ الذي كان أهل المدينة يستضيفونه وخر مغشيا عليه بعد أن تملكه الرعب والوجل.. حينها تأكد الجميع إنما الرأس هي رأس اليفانا بعينه... ''إنما أراد الرب أن يكون هلاك القوي على يدي امرأة... سبحوا الرب بالدفوف ورنموا للرب على الصنوج.. عظموه أبد الدهر فالجبال تهتز من عظمته والصخور تذوب كشموع أمام وجهه.. هللوا للرب ومجدوه.. من يتقوه ويقدموا القرابين باسمه فهم أعز مخلوقاته والويل لمن كفر به فالنار والدود مصيره... سبحوا للرب المبارك.'' رددت الجالسة على المكتب النشيد وسمعت صوت الدفوف كما استنشقت روائح البخور والقرابين المحروقة باسم الرب... عادت من شرودها ورحلتها الطويلة بين ثنايا ذاكرتها العتيقة... قامت بعدها نحو الصوان حيث المرآة.. تطلعت فيها كأنما تتأكد أنها موجودة بهذا الزمان والمكان.. ابتسمت بحزن وفرح في نفس الوقت.. ابتسامة اشتياق للماضي.. ابتسامة تخلص من الماضي.

18 views0 comments
Post: Blog2 Post
bottom of page