top of page
Ilyas Akrab

ورع ارملة: الحلقة الاولى

تناهت أصوات النواقيس ترتفع ببطء ويتداخل بعضها البعض في سمفونية عتيقة تذكر المؤمنين بأوقات ذكر أو صلاة... فتحت عينيها وتمططت بالفراش وهي تتمايل ذات اليمين وذات الشمال فوق سرير رُفع عن الأرض بأعمدة نحاسية عتيقة ارتفعت إلى أن قاربت السقف وشكلت قبة انسدلت عليها حجب شفافة فوقها ستائر تظلل النائم فوق السرير، ما إن يغلقها حتى يصير منعزلا عن باقي الغرفة... السرير يتوسط الحائط حوله منضدتان من خشب الأبنوس المنقوش.. على الجانب المقابل صوان يقابله مكتب بين نافذتين طويلتين تفضيان لشرفة... للغرفة، المغلفة بورق مورد، تصميم القصور أو لعله قصر... قامت بتثاقل من مكانها.. رفعت ستائر السرير ثم توجهت لإحدى النافذتين جرت عنها الستارة... لاحت أضواء المدينة تلمع منافسة النجوم التي بدأت بالظهور على صفحة السماء...من بعيد تراءت قبة عظيمة البناء بديعة الصنع تتلألأ حولها الأضواء وتشع كهالة... المدينة-الدولة المقدسة تنبسط أمامها... التل العتيق الذي تهوى إليه أفئدة المؤمنين بالخلاص... أسدلت الستار من جديد وجلست فوق كلسي المكتب تتأمل في فراشها.. سرير غير مرتب تحيط بجوانبه ستائر مخملية حمراء.. ذكرها المشهد بلوحة معينة صادفتها قبل أيام في زيارتها لمتحف بحاضرة التلال السبع... دارت بجسدها نحو المكتب وأشعلت حاسبها الفضي تبحث بين بعض الصور الملتقطة إلى أن وجدت اللوحة المنشودة.. تلاث أشخاص باللوحة.. تلاث ملامح.. تلاث مصائر... طالعت السرير بأغطيته البيضاء الغير مرتبة وستائره الحمراء المرفوعة كأنها ستائر تعلن بداية مسرحية إلا أنها مسرحية تراجيدية دموية... فوق السرير رجل يظهر جذعه العاري... صدر مرسوم وأذرع قوية صلبة هي لرجل فحل يحق له أن يفتخر بفحولته... لكن هذا الجذع الصلب الرجولي متصل، عن طريق رقبة، برأس لها لحية غير مشذبة كشعر الرأس الواضح بعضه.. هذه الرأس على وشك الانفصال عن جسدها... وجه جزع هو من يخبر هذه المأساة... فم مفتوح على وشك طلب الصفح أو على وشك طلب النجدة... ملامح تغضنت كأنها شاخت في لحظة ارتسم كل خط منها بجهة وحفر مكانه كخندق جف عنه الماء... عينان جزعتان تملكها الخوف.. تملكتهما الصدمة.. تملكتهما الدهشة... ارتفع بؤبؤهما يستجديان...ملامح مفزوعة لوجه رأى الموت.. ملامح مندهشة لوجه رأى الموت بغتة...ملامح مصدومة لوجه رأى الموت على يد امرأة... هذه المرأة تمسك بسيف يحز رقبة الرجل... امرأة امتزج جمالها بهالة من القوة تحيط بها... على ملامحها الشابة الفضول والاشمئزاز في نفس الوقت... يدان ثابتتان.. إحداهما تمسك الشعر والأخر تحز العنق بالسيف اللامع... عنق انفجرت منه الدماء وتطايرت على شراشف السرير الناصعة البياض... على جانب المرأة عجوز انحنى ظهرها... تحمل ثوبا وعلى أهبة الاستعداد لتلقي هذه الرأس بعد سقوطها.. في نظراتها الشر.. الاستمتاع والحقد باد على محياها الكثير التعرجات... كأنها مسرورة لهذا الحدث وتنتظر اكتماله على يد حاملة الشيف المنهمكة في عملها..

كادت تسمع خوار حنجرة الرجل والروح تغادرها... تراءت لها أقدامه وهي في النزع الأخير تصارع بكل ما بقي فيها من قوة... ضربات قلبه المرتفعة والمتسارعة فالضعيفة والقليلة ثم فالصامتة... أحست بيد المرأة الباردة تحز الرقبة كقطعة لحم... سمعت همسات العجوز وتنفسها المضطرب... عاشت في اللوحة ومضت بها ذاكرتها المنهكة إلى الماضي.. إلى ماض لو أخبرت شخصا أنها عاشته لاتهمها بالخبل والجنون...

'' يا شعب الرب.. يا أيها الأبناء البررة... أيها القاطنون بجوار الهيكل... يا من يعيشون بالجبال... اسمعوا لكلامي وانقلوه لأهاليكم... إن جيوش البابلي الظالم قادمة.. بعد أن رفضتهم مشاركته في حربه ضد ملك فارس فها هو قام عليكم.. لقد بعث جنودا لا قبل لنا بهم وعتادا لا نملك ربعه... بكل إقليم حلوا خرج رؤساؤه يطلبون السلام والعفو ليتجاوز عنهم ملك البلاد.. حيثما حل الجنود يهدون إليهم الأبقار والأغنام.. بكل مكان وضعوا فيه أقدامهم فإن آلهة البلاد تتهشم ويعلو صنم واحد هو صنم الملك البابلي الذي أعلن نفسه إلها فوق الأرض وأراد منافسة الرب المبارك إلهنا... يا شعب الرب فروا إلى الجبال وحصنوا مدنكم وقراكم... اجمعوا حنطتكم وادفنوا مدخراتكم إن طبول الحرب ستقرع... يا من كتب عليهم الشتات والتموا أخيرا ببلاد الرب بلاد آبائكم فروا للحصون ورابطوا بالطرقات حتى نستعد للغاشم إذا ما حل علينا.. الرب إلهنا لن يتركنا'' انتشر كلام الرجل الراكب على فرس كالنار في الهشيم وسرى بين النبلاء والرعاع ... الكل أجفل... يتذكرون قبل سنين حينما بعث ملك بابل في طلب العون منهم ومن جيرانهم حتى يتغلب على عدو له... تذكروا كيف طردوا رسوله واستهزأوا به... ارتعدت فرائضهم وهم يسمعون كم من الحصون دمرت... خشوا على أنفسهم ويلات حرب لن يقدروا عليها كما لم يقدر عليهم جيرانهم ممن خرجوا طالبين الصفح و رافعين رايات الاستسلام مفضلين عبادة إله جديد وهم أحياء على الموت وهم يدينون بدين آبائهم... ولولت النساء واستعد الرجال لملاقاة العدو بعد أن جاءت رسالة من كاهن الرب تأمرهم بالاستعداد كما أمرهم بالصوم والابتهال للرب... لبس الكهنة والورعون المسوح كما سجد أمام مذبح الرب الأطفال خاضعين متذللين... صرخ الشعب جملة للرب بألا يتخلى عنهم ولا يجعلهم عبيدا للوثني.. ألا تسبى نساؤهم وألا يذبح أطفالهم.. حثوا الرماد على رؤوسهم وارتفع دخان قرابين الرب... كلهم قلب واحد لعل الرب يفتقد شعبه...

على مقربة من بلاد يهوذا، انتصبت خيام الجنود وكثر لغطهم بالوادي... بالخيمة المركزية، كان القائد اليفانا يمشي ويجيء يزفر نفسا حارا بعد أن سمع أن شعب بني إسرائيل تأهب للمقاومة والمدافعة عن أرضه وإلهه بأن سدوا منافذ الجبال. نادى القواد والرؤساء ممن أذعنوا له واستسلموا '' من يكون هذا الشعب الذي سولت له نفسه أن يقاومني؟ من يكونون؟ ما مدنهم؟ ما قوتهم وعتادهم؟كيف استخفوا بنا من دون كل ساكني أرض المشرق ولم يخرجوا لطلب الصفح ورفع رايات الاستسلام؟ '' سأل وهو يستشيط غضبا... قام شيخ من رؤساء الأقوام المهزومة وقال:

''أ يأذن لي القائد بالكلام؟'' استرسل بعدها دون أن يتلقى جوابا، هامت عيناه كأنما تريان الجبال خلف ثوب الخيمة الحريري: ''الحق أقول لك وأخبرك بما سمعت عن أسلافي وما رأيت بعيني.. إن هؤلاء القوم الساكنين بالجبال هم من نسل الكلدانيين إن حياتهم ملحمة وأيامهم تستحق أن تنشد على مدى الدهور... استقروا بادئ ذي بدأ ما بين النهرين بعد أن رفضوا واستغنوا على آلهة الكلد أسلافهم... احتقروا آلهة أسلافهم ورغبوا عن عبادتها ليسجدوا لإله واحد في السماء فنفوا أنفسهم لكنعان ولما عم القحط والجوع أمرهم إلههم بالنزول إلى بلاد آمون... مصر.. أربع قرون تكاثر فيها نسلهم وتضاعف عقبهم بأرض النيل حتى صار من الصعب إحصاؤهم إلا أن جاء فرعون من الفراعنة فاستعبدهم وقسم ظهورهم بالأشغال الشاقة كما كسر عزتهم بالاحتقار والصخرة.. بنوا معابد من لبن وطين... صرخ هذا الشعب إلى ربه وبكى الصبية والعجائز حتى سمع ربهم بكاءهم وأنزل الضربات على مصر وأهلها... سلط عليهم إله إسرائيل لعنات لا قبل لأمون ورع بها فخاف المصريون وسرحوا شعب الرب ليتخلصوا من لعنات إلههم الذي لا يُرى.. مضوا حتى وصلوا للبحر الأحمر وبذراع قوية ويد ممدودة قسم ربهم البحر قسمين ومشوا وسطه كأنه طريق معبدة... إلههم إله معجزات وقوى...عبروا البحر دون دراية أن شعب المصريين يتعقبهم لينتقم... عندما رأى شعب إسرائيل غبار مركباتهم وشرارات أعينهم ولولت النساء وتضرع الرجال... هكذا سمع الرب بكاء شعبه من جديد فأطبق البحر على أبناء إيزيس وأنهى نسلهم ليجعلهم عبرة وليشكره شعبه جيلا بعد جيل ويحكوا قصة خروجهم من مصر لأبنائهم.. بسيناء من عليهم إلههم فرزقهم أكلا من السماء وفجر لهم عيونا كثيرة ترويهم... حيثما دخلوا يهللون باسم إلههم فهم فاتحون دون قوس أو سيف... لم يتخلى ربهم عنهم إلا حين تخلوا عنه.. والحق يقال إنهم أظهروا الجحود أمام كرمه وأبانوا عن الكفر أمام عطفه... في كل مرة يتكرون إلههم فهو يسلمهم لعدالة الأرض ويجعل الشعوب تستضعفهم وتكسر شوكتهم فيعودون نحوه كأبناء يشتكون لوالدهم... وفي كل مرة كان ينقدهم.. إلههم يبغض الآثام والذنوب، يحب المتذللين من شعبه لذلك فهو يختبرهم في كل حين ليعودوا نحوه كلما قل بخور قرابينهم وخرست ألسنتهم عن التهليل باسمه...لقد حذوا عن طريق ربهم من سنين لكنهم الآن وقد استقاموا فقد لم شملهم ووحد كلمتهم بمعبده في مدينة النور حيث يقيمون أقداس الرب ويضحون باسمه... إن كان لهذا الشعب إثم وخطيئة مع ربهم فلنصعد ونحاربهم لأننا سننتصر ونستعبدهم، لكن إن لم يكن لهم إثم أمام إلههم فلا قبل لنا بمحاربة إله أطبق البحر على المصريين... سنكون عارا بين الأمم.''فرغ العجوز من كلامه وبدل أن يجد الآذان الصاغية فقد التفتت ليرى الغضب يتطاير من عيني اليفانا: '' كيف لنا أن نخاف من شعب لا يدري أمور الحرب ولا يعلم تدبيرها... أقسم لألون الجبال بدمائهم و أجعل جثتهم منتشرة على السهول''ارتفعت الأصوات مؤيدة لكلام القائد وعزموا على مقاتلة بني إسرائيل.

22 views0 comments

Recent Posts

See All

Comments


Post: Blog2 Post
bottom of page