أتمنى أن أكون قد وضبتُ أغراضي كلها ولم أنسى شيئا واحدا، فلستُ في المزاج المناسب حتى أكتشف أن شيئا ما ينقصني، ها قد انطلقت رحلتي الآن بصحبة سائق الشاحنة على مشارفِ منتصف الليل تقريبا، شغل السائق مقطعا يعود للزمن الجميل وقد كانت أغنية لفرقة "ناس الغيوان" ثم أدار المفتاح وحرك محول السرعة، أخدنا نسير في الطريق تحت ظلمة السماء وضوء القمر بل وملايين النجوم التي لا تنتهي، نتبادل الكلام ونتذمر من تغير شؤون الحياة، بدأتُ أطراف الحديث بمقارنة بين الأجيال الماضية وكذا نمط عيشها العتيق البسيط وبين الجيل الجديد ومتطلباته الكثيرة التي لا تنتهي، قفزتُ بعدها إلى التربية والأخلاق بل والدور المنوط بالأسرة كمؤسسة تساهم في تأطير الأطفال، لأعبر بذلك نحو السياسة ولم يفُتني أن أناقش المشكل القائم بين المغرب وإسبانيا بصفته حديث الساعة، علاوة عن هجرة الشباب السرية نحو شبه الجزيرة الإيبيرية حيثُ أنهم يضحون بالغالي قبل الرخيص بل ولو كلفهم ذلك حياتهم، فقط هربا من مرارة العيش بوطن أضحى يلفظ أنفاسه الأخيرة، أخذت أغوص في الموضوع وأجوب فيما السائق "بَّا عرُّوب" كله آذان صاغية...
أخرج بَّا عَرُّوب" بعدها الغليون من جيبه أو "السّبْسي" كما يصطلح عليه باللغة العامية، وبدأ بحشوه بما يكفي من مادة "القِنب الهندي" ثم أشعله وأردف قائلا:
- صدقني يا بني إن كل الذي تحدثت عنه مجرد هراء وعبث فقد كان من الأفضل لنا جميعا أن لا نتواجد على هذه الأرض أساسا، كان على سيدنا آدم أن يلتزم حدود الله وألا يثق بالنساء فإنهن مهلكة للعالم وهذا ليس كرها لهن أو ما شابه، بيدَ أنني أقصد أن رأي النساء لا يؤخد به وإلا سينتهي بك المطاف تائها كسيدنا آدم...
ثم ختم قوله بكلمات متفرقة لستُ أتذكرها بشكل صحيح:
- الحياة كبحر أسود عمقه ليسَ يُعرف، العاقل لا يسبح فيه بعيدا بغية أن يستطيع العودة متى شاء، أما الغافل والجَشِع بل والظالم والخائِض في أعراض الناس أيضا، يسبحون نحو نهايته دونما أن يُلقوا بالا لإمكانية الرجوع، لكنهم ليسوا يدركون ذلك حتى تصبح اليابسة لا تشتركُ معهم في شيء إلا حدَّ النظر البعيد، فتنتهي الأماني في جوف المياه المظلمة...
ثم شبَّهَ السائقُ الحياة بالجبل مستدركا بأن الإنسان يتوجبُ عليه أن يضع السقوط المفاجئ في حسبانه قبل أن يدرك القمة، وأكمل قائلا أن الحياة "كوميديا سوداء" بل وأَنه يظن أن بقاء الديناصورات على هذا الكوكب كان سيظل أفضل بكثير من حال الحياة بالشكل الذي نعيشُه اليوم...
كان كلامه جميلا جدا ويتسمُ بنوع من الأناركية من جهة بل والسوداوية من جهة أخرى، كان ذلك يروقني فأخذني السهو والغفوة لأنام فيما بعدُ لما تبقى من مسافة للوصول...
بعد مرور ساعتين من الزمن أيقظني "بَّا عرُّوب" قائلا:
- "نُوض أوليدي عْلَى سْلامتك هانْتا لْحَكْتي..."
غادر مقود الشاحنةِ لتوديعي فعانقني وربَّت على كتفي ثم أردف قائلا:
- "حفظك المولى يا بني، أكمل على نفسِ المنوال..."
ثم راح في طريقه...
- "رافقتك السلامة دائما بَّا عرُّوب..."
ما هي إلا دقائق قليلة حتى حضر عندي محمد بدراجته النارية اللطيفة، ذهبنا بعدها لمنزله المتواجد بخارج المدينة وضجيجها بل ومبانيها العالية، كانت الساعة تشير للخامسة صباحا فقد كان الجو لا يزالُ مظلما وباردا، ركبنا الدراجة نتأرجح إلى أن وصلنا للمنزل، كان الجميع نائما بالطبع، أخذني محمد للمكان الذي سأنام به، لم أملك حتى فرصة تفقده أو رؤية كيف يبدو فقد انهال عليَّ التعب، لذا كل ما كنت أفكر فيه هو أن أَخْلَدَ للنوم فقط...
Commenti