دقت آخر ساعات الليل وأنا أمشي على الرصيف غير مبال بالعقارب، فهي تتبعني منذ نعومة أظافري وها هي ذي تتبعني وأنا شاب في مقتبل عمري وستتبعني الى آخر الزمان.
كانت الساحة العامة بمدينة اسطنبول تذكرني بمدينتي كثيرا، إلا أن خلوها من البشر حثني على الجلوس والاستمتاع بآخر الليل وحدي، وبخلوتي التي دامت أسابيعا في مدينة بعيدة، لا أصل ولا محب يتذكرني إلا الرياح العاتية التي جعلتني أمد يدي لجيب فارغ وأتحسس معدة أكثر جوفا منه. أتحسس رياح آخر الصيف وأوائل الخريف على وجهي، وأتمتع بأصوات حفيف الأشجار التي يمكنني سماعها حتى من غرفتي في الفندق الذي أقطن به على بعد رصيفين.
فإذا بي أسمع أصوات أطفال يقتربون من مكان جلوسي، أدقق النظر وأرى كيف يختلون بأنفسهم و يتحركون بصمت لكي لا يثيروا انتباه أحد. كانت كبيرتهم تقرب الثانية عشر من عمرها أما الصغيرين فالفتاة كانت تقرب السابعة والفتى لم يتجاوز ربيعه الخامس بعد. كانت كبيرتهم تحثهم على الصمت والاستمرار بصوت متقطع بسبب اصطكاك أسنانها بالبرد، و بلهجة سورية تقرب الفصحى، و يجيبونها بكلام لم أستطع فهمه لصغر سنهم.
نظرت لعينيها فكانت في غاية الجمال رغم ملابسها الرثة وشعرها الأشعث، فقد كانت عينيها خضراء لكن تبدو عليهما علامات الحزن والتعب، فبدا جرح قلبها عليهما، فجرح القلب يبدو واضحا على محيا المرء.
كان الصبيان لازالا في سن يجعلهما لا يفهمان وضعهما الحالي رغم أن الفتاة تخبرهما لمرات أنهما سيبيتان في الحديقة اليوم، فتجعلك كلماتها تتساءل في أي يوم سيستيقظان ليفهما أن لا وطن لهما بعد اليوم، وأن ما كان يعتبرانه بيتا لهما صار خرابا. كلماتها حفرت في قلبي وحالتهم أنهكت روحي، فكيف لأطفال خلقوا ليعيشوا ويلعبوا ولا يعرفوا من البؤس إلا في أواخر العمر أن يعرفوا قسوة العالم في عمر مبكر، وأين شهامة العرب وجودهم في ترك أبناء ملتهم في الحضيض، أين جودك يا عمر وعثرت بغلة في طريق العراق لسألك الله عنها لم لم تصلح لها الطريق يا عمر، أين حفاوة عربنا و قوميتنا.
قسوتنا لا تتمثل في زعماءنا بل في أطفال يمشون حفاة في الشارع وأقدامهم تسيل دماء نحن في سنوات وصلنا لبنايات تناطح السحاب وطائرات تخلق المطر من فراغ، وصلنا للفضاء ولكن لم نصلح ما في قلوبنا. ندعي الصلاح في العامة ونضع تناسينا في الخفاء خشية من أعين الناس. ننسى أن أعين الحق لا تنام و تغفل. فإن سئلنا عن أقدام طفلة مشت حافية في برد لم أتحمله داخل معطفي، وعن دموع طفل لم يفهم لما لا يجد سريرا ينام عليه، إن سئلنا عن بلاد دمرت وعن أسر شردت وأين كنا من هذا كله ماذا سيكون جوابنا؟ فما نحن بأفضل من بلاد الشام وإن مشيت في شوارع مدن المغرب ستجد الناس نيام في الشارع يعانون برد الرصيف، فمآلنا واحد إذا لم نتحد.
جلست أنظر للمنظر أمامي وبكيت حسرة على خير زال ولم يعد وعن حزن نعيشه وسنعيشه، بكيت حرقة على عدم استطاعتي على التغيير. بكيت حرقة ونزعت معطفي وأعطيته لهم وأبكاني كبريائهم وعفتهم بالرفض وعزة نفوسهم عن العطاء فأصررت.
سرت إلى الفندق وأنا أمسح دموع الحسرة وما أنا بسهل البكاء ولكنني تذكرت بلادي وتذكرت مآلنا في بلدان لا يرحم، و سمعت ساعة المدينة تدق بمنتصف الليل، تذكرني بزمان أقصى من بلداننا، بزمن لا ينتظر أحدا. فرفعت رأسي للسماء داعيا بفجر أرحم، و صبر يهين علينا مكاربنا.
Kommentit