top of page

لوحة الشيطان: الجزء الاخير

مرة أخرى استيقظ في مكان لا أعرفه، ليست شقة هذه المرة بكل تلك اللوحات المنتشرة في المكان، وأدوات الرسم، والفرشات والألوان، يبدو المكان كمعرض أو مرسم، هناك مكتب في صدر المكان عليه جهاز حاسوب، أشعر بآلام رهيبة في الجانب الأيسر من بطني، تحسست موضع الألم، فغرق كفي و غرقت أصابعي بالدماء الدافئة، هناك جرح غائر في بطني، تسيل منه الدماء، تلفت حولي في ذعر، فوجدتها هناك معلقة على الجدار، تنظر لي بسخرية سوداء، إنها لوحتي الملعونة مرة أخرى، جلبتني إلى هذا المكان الذي لا أعرفه!

ألمح صورة ضوئية في إطار فوق المكتب، أمسكتها بيدي الغارقة بالدماء، ونظرت فيها، إنني أعرف صاحبها، إنه (لعربي) صديق (رانية)، يظهر في الصورة وهو يتسلم درعا أو جائزة من شخص ما، يبدو أن هذا المكان هو مرسمه.

أشعر بضعف ودوار شديدين، جلست على الأرض واسندت ظهري إلى الجدار، ألقيت نظرة على لوحتي الملعونة، لقد تغير المشهد على نسيجها، لم استطع تبين المشهد الجديد من موقعي هذا، ولم أقو على القيام والاقتراب لرؤيته ... ألم شديد من الجرح، وشعور بالخدر يتسرب إلى نصفي الأيسر، أتساءل ما سبب هذا الجرح؟ هل ذهبت في رحلة أخرى من رحلاتي التي ترسلني فيها تلك اللوحة عندما أكون نائما، وأصبت فيها إصابة خطيرة!؟ تبدو بالفعل خطيرة ومميتة!

استلقيت على جانبي الأيمن، أخرجت هاتفي المحمول، وضبطت المنبه فيه على أن يرن كل عشر دقائق، لا أريد أن أنام الآن، واستيقظ لأجد نفسي، وقد ارتكبت كارثة أخرى، اعتقد أن اللعنة على وشك الانتهاء، لقد كانت حياتي بائسة بما يكفي، وموتي الآن إذا كان سينهي هذه اللعنة لن يكون سيئا ... فجأة دق جرس الهاتف، نظرت بعينين زائغتين إلى شاشته، إنها رقمها ... تدفقت الطاقة في عروقي دفعة واحدة، ووجدت نفسي اعتدل متناسيا جرحي القاتل، وأنا أضغط على زر الإجابة في الهاتف قائلا:

- آنسة (رانية)!

- (مسعود) أين أنت، الجميع يبحثون عنك!؟


صمت للحظة، ثم رددت بصوت خائر، ضعيف:

- صدقيني يا آنسة (رانية) ... أنا لم ارتكب أي جريمة، ولم أقتل أحدا، إنها تلك اللوحة الملعونة وشياطينها، إنها هي المسئولة عن كل ذلك.

- أعرف يا (مسعود) ... عذرا لم انتبه لمكالماتك إلا الآن.

ألم رهيب اكتنف جرحي، فتأوهت بصوت خافت، ضغطت على أسناني وأنا أجيب بصوت ضعيف:

- لا يوجد مشكلة، المهم أنك اتصلت بي في النهاية، كنت أريد أن أبرئ نفسي أمامك قبل أن ...

لم استطع أن أكمل، فجاءني صوتها القلق:

- قبل ماذا يا (مسعود)!؟ ولماذا يبدو صوتك ضعيفا متألما!؟

استجمعت بعض قوتي كي أجيب:

- لا تقلقي ستنتهي اللعنة بعد قليل.

جاء صوتها ملتاعا:


- أين أنت يا (مسعود)؟

- لقد جاءت بي اللوحة رغما عني، إلى مرسم (لعربي)!

قالت بسرعة:

- إذا ابق مكانك ... أنا قادمة؟

- انتظري ... كنت أريد أنا أصارحك بشئ واحد أخير.

- صارحني عندما أصل إليك.

- لا ... هذا هو الوقت المناسب ... أريد ان أخبرك أنك إنسانة رائعة، الملاك الوحيد في حياتي الممتلئة عن آخرها بالشياطين ... أنا ... أنا أحبك.

أغلقت الهاتف بسرعة دون أن انتظر ردة فعلها ... لا أريد ان أسمع ردها، لا يهمني، المهم انني أعترفت لها بحبي وهذا يكفي ... الآن يمكنني أن أموت مرتاحا ... الآن أرى أن حياتي لم تكن بهذا السوء!

*

خارت قواي تماما، أشعر بالخدر الآن في كل جسدي، هل هذه هي عوارض الموت، نظرت إلى تلك اللوحة الملعونة، أشعر بأن ضحكاتها الساخرة، الظافرة، تصل إلى مسامعي ... استجمعت آخر قطرات من طاقتي، نهضت بصعوبة شديدة وأنا استند إلى الجدار، أخذت أجرر قدمي متوجها صوب اللوحة، الآن أرى المشهد المرسوم على نسيجها، ابتسمت بسخرية، فقد كان المشهد يعرض شاب جاثيا على ركبتيه تحاصره الشياطين من كل جانب، تنتظر اللحظة المناسبة لتهاجمه وتفترسه، وكان ذلك الشاب يشبهني تماما، تمتمت بصوت خفيض:

- هذا هو مشهد النهاية إذا!

فجأة صعقتني تلك الخاطرة، (رانية) في طريقها إلى هنا، وقد يعرضها ذلك للخطر، يجب أن اتصرف بسرعة، تلفت حولي في جزع بحثا عن شئ يساعدني، لمحت في ركن من المكان مجموعة من الحاويات عليها علامة (خطر)، أعلم أن الرسامين يحتاجون أحيانا للبنزين والأثير لخلطها بمواد الرسم ... توجهت ناحيتها وأنا مازلت أجرر قدمي من التعب، سقطت على الأرض، وخلت أنني لن استطيع النهوض، ولكنني بإرادة حديدية نهصت من جديد وخطوت خطوتين أخريين حتى وصلت إلى تلك الحاويات، رفعت الغطاء عن إحداها وتشممت الرائحة، وابتسمت بظفر وأنا أنظر إلى اللوحة، وأخاطبها قائلا:

- استعدي للمحرقة أيتها اللعينة.


فجأة انطلقت تلك الصرخات المفزعة، كانت لتروعني وتشيب شعري في ظروف أخرى، ولكن عندما تكون على مسافة خطوات قليلة من الموت لا شئ يمكنه أن يفزعك ... ومع تلك الصرخات الشيطاينة المفزعة تحررت الشياطين من سطح اللوحة وأخذت تجول في المكان، كانت تتحرك في دوائر أنا في مركزها، تقترب مني، تصرخ في أذني، تمس جسدي فأشعر بلمستها كقضمة الصقيع، سقطت على الأرض مجددا، وقد غامت المرئيات أمام عيني، أشعر أنني سأغيب عن الوعي، سأغيب إلى الأبد ... فجأة جائتني تلك الفكرة، وكأن حالتي تلك قد جعلت عقلي أكثر صفاء، وقدرة على التفكير، أعرف الآن كيف أتخلص من تلك اللعينة! سأحرق المكان ولكن ذلك لن يكون كافيا، فقد جربت النار معها من قبل، ولكنني الآن امتلك خطة أخرى.

بيدين مرتعشتين استندت عليهما، واعتدلت من جديد، قبل أن انهض من سقطتي، حملت إحدى الحاويات وأخذت أفرغ ما بها في المكان، ثم أشعلت ولاعتي وألقيتها على السائل الحارق فاشتعلت النيران في المكان في ثانية واحدة، قبل أن أتوجه إلى لوحتي الملعونة، وأنا أتجاهل كل تلك الشياطين التي تحوم، وتتقافز، حولي، وفي طريقي التقطت أنبوبين من الألوان، ونزعت غطائهما بأسناني بعنف، وبصقتهما في جانب من المكان الذي توهج تماما بلظى النيران، التي تلفح وجهي وجسدي وتحرقهما، لم أبالي بكل تلك الآلام، ولا بغياب الأوكسجين من الجو الذي يخنقني ... واصلت خطواتي الأخيرة، حتى أصبحت أمام اللوحة تماما، أفرغت أنبوبي الألوان على كفي، وأنا أتحدث إلى اللوحة قائلا بكراهية:

- ما رأيك في أن أضيف مشهدا جديدا إلى نسيجك، ايتها الملعونة!

وبسرعة أخذت أمسح بكل تلك الألوان التي في كفي على نسيج اللوحة، وأنا أحرك يدي حركات دائرية، كنت أبذل اقصى جهدي لأخفي كل معالمها تحت تلك البقع اللونية التي أصنعها بيدي في حماس ... تغيرت صرخات الشياطين، وبدت مرعوبة، متألمة، وهي تحاول العودة إلى اللوحة فتصطدم بالغطاء اللوني الذي صنعته فوقها، فتسقط على الأرض لتلهمها النيران ... استمر ذلك الوضع الجنوني للحظات أخرى حتى التهمت النيران كل الشياطين، صرخت في ظفر:

- لقد هزمتك إيتها اللعينة!

فجأة خرجت يدان مخلبيتان من اللوحة وسحبتني إلى داخلها، فوجدت نفسي أسقط في بئر عميق مظلم، بلا قاع.

*

وصلت (رانية) إلى المكان فصعقتها تلك النيران التي تلتهمه بسرعة كبيرة، لحظات ووصل المحقق المتحمس، ومعه رجال الشرطة، وسيارتي إطفاء ... بعد ساعة تمكنت الجهود من السيطرة على النيران وإطفاؤها حتى آخر شرارة ... كانت النيران قد أتت على جميع اللوحات وأدوات الرسم التي تفحمت جميعها، بحثوا جيدا في المكان، فلم يعثروا على أي أثر (لمسعود) ولا للوحته الملعونة، لقد اختفيا كلاهما، أو اكلتهما النيران حتى آخر ذرة ...

*


لا لم تكن تلك النهاية التي توقعتها ... أنا راوي القصة إذا كنتم قد لاحظتم ذلك بالفعل من أول سطر فيها، وراوي القصة لا يموت في قصته، هذا شئ منطقي بالطبع، بالتأكيد لم أمت رغم أنني اقتربت من ذلك كثيرا، ليتني مت! كان هذا سيضع حدا لبؤس حياتي، ولكن هاهي حياتي البائسة تتواصل داخل ذلك العالم المرعب الذي صنعه ذلك الرسام المخبول داخل لوحته الملعونة، بعد أن نجح في جذبي وأسري إلى داخلها، لأعيش فيها للأبد، بلا أي أمل في النجاة، ولا الخروج لقد نجحت بالفعل في غلق تلك البوابة، وأوقفت لعنتها عن عالمي، ولكن هذا قضى أيضا علي أي أمل لي في العودة إليه، قد أعيش هنا آلاف السنين، في ذلك العالم اللعين، مع ذلك المجنون وشياطينه الخبيثة ... يخفف عني العذاب أحيانا، تلك اللحظات التي أفكر فيها في حبيبتي (رانية) وفستانها الأخضر، وعينيها الخضراوين كلون توكتها التي تعقص بها شعرها الأشقر الذهبي .

تمت

7 views0 comments
Post: Blog2 Post
bottom of page