يمكنك أن تتخيل الكثير من مشاهد الرعب، وبعضها قد تراه رأي العين في حياتك، لكن أي شئ قد يكون أكثر رعبا من أن تخرج من دورة المياة، لترى زوجتك تعبث في حافظتك، وتخرج منها صورة لإمرأة أخرى ... آلاف الأفكار تتداعى في عقلك في تلك اللحظة، كلها أفكار سيئة، متشائمة ... تبادر زوجتك متهما إياها بإنها ليس لها الحق كي تعبث في أشياءك، وهي مناورة بارعة يجيدها معظم الرجال، ويستخدمونها دائما في محاولة لكسب المزيد من الوقت للتفكير في إجابة عن السؤال القادم لا محالة:
- صورة من هذه !؟
قالتها زوجتي الرقيقة، الرشيقة، بصوت غليظ، متوعد، يحمل الكثير من إمارات التهديد، وبدا صوتها كهسيس أفعى، أو كصفير، قنبلة يدوية نزع عنها فتيل الأمان وتوشك على الانفجار ... ثم اتسعت عيناها فجأة وهي تحدق في الصورة، ثم تبدل وجهها واكتسي بملامح الرعب وهي تقول:
- إنها ... إنها ... إنها تلك المرأة الشبح التي رأيتها في الصالة ...
للمرة الثالثة في أقل من دقيقة واحدة تغيرت ملامح وجهها، وصوتها، وبدت ضائعة، متوسلة، وهي تشير لي بالصورة وهي تسأل:
- من هذه المرأة!؟ أرجوك أخبرني ...
يمكنني أن أكذب واخترع قصة وهمية عن صاحبة الصورة، والرجال بحق بارعون في ذلك، كما أن النساء بارعات في عدم تصديق تلك القصص، وتفنيدها ... أظن أنه علي الآن أن اعترف بالحقيقة، هذه هي اللحظة المناسبة لأخبرها بالحقيقة التي أخفيتها عنها ...
***
يقولون أن تشابه الخصال والظروف يقودان دائما إلى الحب، لو توافر الزمان والمكان لحدوثه ... أمرا قد جربته بنفسي في آخر سنواتي الدراسية بكلية الطب ... أنا يتيم قام عمي برعايتي، وهي كذلك يتيمة كفلها خالها، أنا طالب بآخر سنة بكلية الطب، وهي طالبة بآخر سنوات كلية الإعلام، أنا أعشق روايات الخيال العلمي، والموسيقى الكلاسيكية، والطعام الإيطالي، وهي أيضا، هي تعد تقريرا صحفيا دراسيا عن طلاب سنوات التخرج وطموحاتهم بعد التخرج، وأنا تواجدت في مكتب رئيس القسم بالمصادفة عندما طلب منه ترشيح طالب لإجراء حديث صحفي معه ... هكذا وجدت بذرة الحب بيئتها الخصبة لتنمو وتترعرع وتتحول إلى شجر وارفة، مثمرة ... بعد شهور قليلة أصبحنا لا نرى إلا معا، وأصبحت قصتنا من قصص الحب الصادقة التي يتحاكى بها الجميع، ويتغامز بها الخبثاء ... وهكذا لم يجد عمي وخالها أمامهما حلا إلا إعلان خطبتنا، بعد وعد من كلينا بتوفير تلك المشاعر والتركيز في الامتحانات النهائية، حيث يمكن حينها إتمام الزواج بعد النجاح والتخرج ...
عامين من الزواج مرا كأنهما أيام قليلة، كل دقيقة كنت أعيشها معها كنت أدرك أنها روحي التي قررت أن تتركني وتهيم في جسد آخر، كانت ملاذي، وسكني، وسلوى نفسي، كانت نصفي الضائع الذي ألهمني الله كي أجده أخيرا بعد كل تلك السنوات ... تنطق بالكلمة قبل أن أنطقها، وتقرأ عقلي وقلبي بالنظر إلى وجهي، بعد عامين فقط امتزجت روحانا وصرنا كيانا واحدا ... يتحدثون عن تراجع الحب بعد الزواج، هذه أكذوبة، فحبي لها، وحبها لي آخذ في النمو والتمدد حتى صار يغطي الكون كله ... ثم ... ثم ... ثم ماتت!
ورم خبيث، وجراحة غير موفقة لاستئصاله، ينتشر بعدها المرض الخبيث في كل جسدها، تحاول أن تصارعه لشهور وأشجعها على ذلك بكل ذرة في كياني، ولكنه يهزمها ويهزمني معها في النهاية، وفي لحظاتها الأخيرة تطلب مني أن اقترب، لتطبع قبلة رقيقة على خدي الغارق في دموع حزني، ثم تهمس في أذني:
- ابحث عن السعادة ... أنت تستحقها.
هكذا ببساطة أسقط في لحظة واحدة من أعلى سماء، لأخسف تحت أدنى أرض ... ألم، وعذاب، وانهيار، ومشاعر قاسية لا يمكن وصفها بكلمات بسيطة، أيام طويلة قضيتها وحدي في شقتنا، مع عقلي اللعين الذي يصر أن يسحق قلبي في كل لحظة بذكرى عنها وعن أيامي الهانئة معها ... يقولون أن كل شئ يمكن أن ينسى، وكل ألم يهدء بعد حين، وكل ذكرى مريرة ستزول وتبقى فقط الذكريات السعيدة، ولكن هذا لا يحدث معي، ألمي وشقائي يتزايدان يوما بعد يوم، حتى النوم أصبح رجاء لا يدرك، عقلي لا يريد التوقف عن التفكير فيها، ومشهد رحيلها وكلماتها الأخيرة يترددان في أروقته طيلة الوقت ... هكذا كنت انتظر أن أجن أو يأتيني الموت فيريحني أحدهما من ذلك العذاب، الذي استمر لأيام طويلة، مظلمة، قاسية، حتى عادت ...
***
أجل لقد عادت ... البداية كانت في تلك الليلة، كنت ممددا في الفراش، أضع رأسي على الوسادة، أغمض عيني أملا في أن يأتيني النوم، الذي أبى كعادته لساعات، فجأة شعرت بشعور مبهم أن هناك من يراقبني، ففتحت عيني فرأيتها ... رأيتها ممددة إلى جواري في الفراش، تنام على جانبها الأيمن ورأسها على وسادتها، وتضع كلتا يديها تحت خدها كعادتها، وتنظر في وجهي وتبتسم ابتسامتها التي أعرفها، وأعشقها، صرخت باسمها في فرح، ومددت يدي نحوها، فاختفت ... أضأت المصباح وبحثت عنها بهستيرية فلم إجدها ... هل كان هذا حلما!؟ أم هو الجنون قد جاء كما توقعته!؟ إذا كان هذا هو الجنون، فمرحبا به!
في الأيام التالية، سمعت صوتها وضحكاتها يترددان في أماكن مختلفة من الشقة، فكنت أبحث عنها بجنون، فلا أجدها، ثم صرت أراها في لحظات عابرة، تدخل الغرفة، أو تخرج من المطبخ، أو تجلس على مقعدي الأثير في الصالة ... أسمع صوتها كثيرا يهمس في أذني:
- ابحث عن السعادة ... أنت تستحقها!
هل هذا حقيقا، أم أنه ضربا من الجنون، ولعبة من ألعاب العقل المنفلت، لا أعلم،ولا أهتم، لأن ما يحدث قد نجح وبحق في أعادتي إلى الحياة، أجل هي موجودة الآن، أراها، وأسمعها، لقد عادت إلى حياتي مجددا، بالطبع ليس بالشكل الذي أتمناه، ولكنه بما يكفي كي استمر في حياتي، وأقبل عليها، أنا أعرف ما تريده مني، لقد قالته في حياتها، وبوضوح، هي تريدني أن استمر، تريدني أن أشعر بالسعادة مجددا، أذكر ذلك اليوم الذي سألتني فيه:
- لو مت، ماذا ستفعل!؟
- سأموت أيضا.
تضع أصابعها على شفتي،كأنها تمنعني من قول ذلك، وهي تقول:
- لا ... أنت لا تستحق ذلك ... عليك أن تعيش، عليك أن تستمع بحياتك.
قبل أن تصمت للحظة، وهي تردف:
- عليك أن تبحث عن الحب مجددا.
في تلك المرة يكون دوري في أن أمنعها من الاسترسال، وأنا أقول:
- لا حب من بعدك، ولا من قبلك ... أنت فقط!
***
سنوات مرت على ذلك، وجدت بعدها نوعا من الحب، حبا يختلف كثيرا عن حبي الأول، فهذا الحب يحمل مشاعر جميلة، ولكنها أقرب لمشاعر الصداقة، والألفة، والرغبة في القرب، منها إلى الحب القوي الذي عشته من قبل، الحب الذي يجتاحك ويسيطر على كل مشاعرك وكيانك ... كان مختلفا ولكنه كان يكفي حتى يأتي بعده الزواج ... لم أكن أمينا مع زوجتي الجديدة وأهلها، لم أخبرهم بأنني قد تزوجت سابقا، لا أريد أن أبعث النار من تحت الرماد، لا أحد يعلم عن ذلك الأمر شيئا، وخصوصا بعد وفاة عمي، وآخر من بقى لي من الأقارب، ما زلت أرى شبح زوجتي الأولى من وقت لآخر، وأسمع كلماتها، وأعلم أنها راضية عن هذا القرار، وهكذا أتممت الزواج، وعشت مع زوجتي الجديدة أياما رائعة، ثم تغير كل شئ، عندما قررت زوجتي الأولى أن تعبث قليلا مع الثانية، وهكذا النساء لا يلتزمن بعهودن، وتقودهن الغيرة دائما، حتى وهن أشباحا، فزوجتي الجديدة تسمع، وترى شبح زوجتي الأولى، وهذا لا يسعدها كثيرا ...
***
انتهيت من روايتي، فنظرت لي زوجتي نظرة طويلة غاضبة، قبل أن تقول بحزم:
- أنا عائدة إلى بيت والدي ...
قالتها، ثم جذبت حقيبة السفر وألقت بها على الفراش، وأخذت تضع فيها ثيابها، وحاجياتها بعصبية، وأنا أقف عاجزا، عن الإتيان بأي فعل، لقد كان ما فعلته خطأ كبيرا، لا شك في ذلك ... ألقت زوجتي بمعطفها إلى داخل الحقيبة، ثم التفتت لي وهي تقول بغضب:
- عموما لا تقلق ... لقد طردتها ... لن تراها مجددا
صعقتني تلك الكلمات، بالفعل لم أعد أرى شبح زوجتي الأولى في الأيام الماضية، وهذا كان يضايقني كثيرا، شعرت بالغضب يجتاحني، واندفعت نحوها، وقبضت على ساعديها، وهززتها بقوة، وأنا أصرخ فيها بغضب:
- ماذا فعلت أيتها الحمقاء!؟
تألمت، وأخذت تقاوم، وتحاول انتزاع نفسها من قبضتي، فدفعتها بقسوة، فترنحت، وتعثرت، واصطدم رأسها بحافة الفراش، ثم سقطت وهي تصرخ صرخة متألمة، قبل أن يرتطم جسدها بالأرض، فتنقطع صرختها ويسكن جسدها تماما، ويسيل خيط من الدماء الحمراء على جبهتها... صحت في جزع:
- ياويلي ... لقد قتلتها!
Comentarios