top of page

أحب إمرآة وشبحا – الجزء الأول

توقظني زوجتي بجزع في منتصف الليل لتخبرني أن هناك صوت أقدام تسير في الصالة، فأطمئنها بأن تلك ظاهرة طبيعية للغاية، وبخاصة مع الصمت والسكون في ذلك الجزء من الليل، حيث يتضاعف أثر أي صوت ضئيل فيصنع صدى عبر الجداران والأسقف والأرضيات الخرسانية، وقد تكون تلك الأصوات هي خطوات أحد الجيران يسير في شقته متوجها لدورة المياة بعد أن شعر بضرورة ملحة لقضاء حاجته في تلك الساعة من الليل ... وعندما توقظني بعدها بدقائق لنفس السبب، أصحبها بعينين ناعستين في جولة بأرجاء الشقة لأثبت لها أن لا يوجد أحدا يسير بها ...


وفي أحد ليالي يوم الأحد وانا أتابع مقابلة لفريقي الاحمر عبر التلفاز بعدما تعذر علي الذهاب الى الملعب، أقف مشجعا لذلك المهاجم القناص وهو يتجاوز المدافع الأخير ليجد نفسه وجها لوجه امام الحارس، وهو يستعد في تلك اللحظة لتسديد الكرة إلى الشباك، ولا يوجد أي سبب ليحرف مسار تلك التسديدة، إلا صرخة ملتاعة من زوجتي انبعثت من غرفة النوم، فجعلتني أقفز كالملسوع، تاركا التلفاز والمباراة والمهاجم الغبي الذي سدد الكرة في قائم المرمى ، وأندفع إلى غرفة النوم لأجد زوجتي متكومة على نفسها في ركن منها، وهي ترتعد وتشير بسبابتها إلى باب دورة المياة المفتوح قائلة:

- إنه يفتح وحده!

أتوجه إليها وأساعدها على النهوض، فتردف بصوت ملهوف وهي تومئ برأسها وكأنها تؤكد لي أن ماتقوله صحيحا وليس مجرد أوهام أو تهيؤات:


- لقد انفتح باب دورة المياة من تلقاء نفسه.

فأجبتها بشكل ألي معتاد:

- إنها ظاهرة طبيعية، حرارة المياة والبخار قد يصنعان فرقا في الضغط، يؤدي إلى ...

قاطعتني صارخة، وهي تصيح بعنف :

- لقد أغلقته بنفسي وأحكمت إغلاقه، وتأكدت من ذلك ولكنه فتح، لقد لمحت المقبض وهو يتحرك، وكأن هناك من يفتح الباب من الداخل ...

قالتها وانهارت على الفراش وهي تبكي بحرقة، وتخفي وجهها بكفيها ... ضممتها، وحاولت تهدئتها ببضعة كلمات، عن الظواهر الطبيعية المعتادة، وقصص مؤلفة عن أشياء مشابهة تحدث للجميع، ولم أتركها حتى نامت، مسكينة، لم يمض على زواجنا سوى شهرين، وقد اقتربت فيهما من حافة الانهيار العصبي، ولكنها ستعتاد ذلك مع مرور الايام ...

*

مضت الأيام التالية على نفس الوتيرة، صرخات زوجتي، تليها رواية عصبية عن شئ خارق للطبيعة تُحدِثُ لها حيرة واقترابا من حافة الانهيار، وتليها إجابات غير مقنعة مني، وساعات في محاولات التهدئة والتهوين من الأمر، تصيح في أذني وأنا نائم:

- هناك صوت داخل خزانة الثياب.

- لا تقلقي يا حبيبتي الخشب (يرتاح) كما يقول العامة، وأنتي تعرفين النجارين وانعدام ضمائرهم واستخدامهم لنوع ردئ من الخشب وعليه فإنه يحتاج للكثير من الراحة...

وفي حذيث اخر تبادرني عند عودتي من العمل:

- اليوم نقلت الأريكة، إلى الجدار المقابل، وهناك من أعادها، اللعنة! من فعل ذلك!؟


- قد تكونين أنت الفاعلة وقمت بإعادتها بنفسك، أو أنك لم تنقليها من الأساس، وقد أكون أنا أعدتها دون أن أشعر ... هذه أشياء دائمة الحدوث، أنت تعرفين ذلك.

تمضي الأيام ، مع روايات زوجتي المستمرة عن أصوات تسمع، وأشياء تختفي، وأبواب تفتح، وأثاث ينقل، كلها أشياء يمكن التعايش معها، خصوصا مع محاولاتي الدائمة لتبسيط الأمور وتهوينها، وأيضا مع حب زوجتي لي وحبي لها ورغبة كلانا في استمرار الحياة ... ولكن في ذلك اليوم عندما عدت من العمل، شعرت أن هناك شيئا ليس على ما يرام في المنزل، فقد كان من عادة زوجتي أن تترقب وصولي وعندما تسمع صوت المفتاح يتحرك في قفل الباب، كانت تسارع بفتحه، وتلاقيني بابتسامة عذبة رغم كل ما تعاني منه تلك المسكينة ... أغلقت الباب وناديت على زوجتي فلم أتلق منها إجابة، توجهت إلى المطبخ بحثا عنها فلم أجدها هناك كعادتها في ذلك الوقت، بحثت عنها في كل أرجاء الشقة حتى وجدتها ممددة على أرض الصالة، متكومة كخرقة من الثياب البالية، لم أدري هل أصابها الأغماء أم فارقت الحياة، فقد كان وجهها شديد الشحوب والجفاف، اندفعت نحوها في هلع، وألقيت بنفسي على الأرض وجثوت على ركبتي، ووضعت رأسي على صدرها، وتحسست نبضات اوردتها بأصابعي، حمدا لله، هناك نبض، إنها تتنفس ... حملتها حملا إلى الفراش، وأخذت أحاول إنعاشها، أنا طبيب، ولكنني أشعر أنني قد نسيت كل ماتعلمته في كلية الطب في تلك اللحظات، وأخير بعد محاولات عدة نجحت في إعادتها لوعيها حينها بدأت تفيق ببطء رويدا رويدا، رفعت رأسها وأسجيتها على فخذي، وأخذت أسقيها بضعة قطرات من الماء إلى فمها، تحسست يدي في رقة، فربت على وجهها وشعرها، وأنا أومئ برأسي مشجعا، فجأة اتسعت عيناها كأنها تذكرت شيئا ما، واعتدلت بسرعة في الفراش، وصرخت في وجهي بصوت ملتاع:

- لقد رأيتها ... لقد كانت هنا ...

حاولت تهدئتها وأنا أقول:

- عمن تتكلمين؟

زادت حدة صوتها وهو تقول:

- إمرأة بيضاء البشرة، لها شعر أسود فاحم، وترتدي ثوبا أحمر!

لم أفهم ما تقصده، فسألتها:

- أين رأيتها!؟


- رأيتها هنا، كانت في الصالة تجلس على مقعدك القديم.

قالتها وغطت وجهها بكفيها، وانطلقت في نوبة حادة من البكاء، يتخللها بضعة كلمات متقطعة، لاهثة، غير واضحة المعالم:

- إنها شبح ... كنت أعلم ذلك ... هناك شبح إمرأة في هذا البيت ... وأنا رأيتها بعيني ...


استمر النشيج والبكاء، ومحاولاتي اليائسة لتهدئتها لأكثر من نصف ساعة، ولم تتوقف أو تغيب في النوم حتى وعدتها بأن تذهب إلى بيت والدها وترتاح هناك لبضعة أيام ... بعدما نامت، وانتظم تنفسها، دثرتها بالغطاء، وتركتها وخرجت إلى الصالة، نظرت إلى مقعدي القديم، الأثير، وتوجهت نحوه وجلست عليه، أخرجت حافظتي الجلدية، وفضضتها وأخرجت منها صورتين، الصورة الأولى لزوجتي الحبيبة، تلك الرشيقة السمراء التي تتمدد الآن في الفراش بعد ما عانته في الساعات الأخيرة، أعدتها إلى الحافظة، وأمسكت بالصورة الأخرى وأخذت أتأملها لدقائق، كانت الصورة لإمرأة بيضاء البشرة، لها شعر أسود فاحم، وترتدي ثوبا أحمر ...

يتبع ...

2 views0 comments
Post: Blog2 Post
bottom of page