كنت كطيف يزورني في المنام بين الفينة والأخرى، رأيتك كنظرة الإله التي ترقب في صمت محير، لعلك رايتي البهية وقت المعركة والتي رفرفت عاليا في السماء لكي تبرز مكامن قوة الثائر، لولاك ما كان للحياة عنوان بل ما كانت لتكون الحياة في الأصل. حبيبتي يا من هجرتك لسبعة عشر عاما من الزمن، زوجتي التي طلقتها وتركتها لتواجه عراقيل الحياة دوني، أقسم أنني منحتك كل الدفء الذي بحوزتي حتى صرت قاسيا كقطعة الجليد، فارغا مضمحلا بدون مشاعر، أعيش لأكمل مسيرتي التي لا أعرف الحدود التي خطها إلهي لها.
أشلائي مبعثرة داست عليها الذكريات في غيابك زوجتي، ما وسعني سوى أن أناديك بزوجتي على الرغم من كونك الآن في أحضان دافئة لزوج آخر، في غيابك صرت هشيما ورمادا ينفثه الزمن! إلهي فلتخبرها أنني شظايا مبعثرة ومسحوقة لم تلملمها أو تجمعها الأيام، أرجوك أخبرها أنني أعلنت إلحادي في ديانة الحب وأنني صرت جريحا لا يقوى على النهوض، سميراميستي الصغيرة أعلم علما يقينا أنك في كنف زوج آخر الآن يداعبك ويخبرك بمدى حبه وفرحته كونك معه، وكيف لا يفرح وروحك الطاهرة بجانبه؟ كيف لا تغمره البهجة وأنت متآمرة ضد الزمان جنبا إلى جنب معه؟ العالم دونك موحش، مظلم ومنسي، قضيت سبعة عشر ربيعا يقتلني القنوط وأذرف الدموع حسرة على الذي حصل، لعنت القرار الذي دب في نفسي والذي يقضي بتركك، بصقت على النفس التي فكرت في الانسحاب دون سابق عهد ووعد، أسير كالأعمى في مشوار الألم ودرب العذاب تتقاذفني الجدران دون رحمة فيسيل دمي ويتطاير شوقا حتى أنه قد يصيبك إن كنتِ مارة بالصدفة، ظننت حقا أن الوقت سيكون كفيلا بمحو الغصة والنكد وسيزيل الألم والحزن الدفين لكن لحظي العاثر شيء من هذا لم يقع... استمر عذابي طيلة العقدين الفارطين حيث منيت النفس مرارا وتكرارا بالموت ظنا مني أنه المنفذ الوحيد ولعله كان ذلك حقا لكنه ما كان مقدرا فنهاية مسيرتي لا أعرف آجالها مطلقا ولا أحد بات يعلم يا حبيبتي، طال الغياب ومشجب الأيام الذي علقت عليه أسبابي وآمالي الرهيفة والهشة، لم تبقى سوى ندبات الفراق الموحش تلطخ حائط الذاكرة، اندثر الصبر وتآكلت العزيمة، استنجدت بكل مآل ومصير، نسيت كل شيء بما في ذلك نفسي لكنني لم أنسك ولو لبرهة من الزمن، كنت النقطة السوداء التي ظلت راسخة وثابتة فدنست بياض نسياني، كنت حاضرة دوما في الوعي واللاوعي، في العقل واللاعقل، في الشعور واللاشعور بل حتى في الحرية والاستلاب. حظرت كل صباح كوبين من القهوة وجهزت صحنين من الطعام في كل وجبة عوض واحد، وكأن طيفك الرقيق وروحك المرحة ستتقاسم معي تلك اللحظات بل وستشاركني الأكل. صوتك الشجي ظل يعربد في أضلعي ونبرتك الخافتة لا زالت تسكن مهجتي، في كل يوم كان يزداد تفكيري فيك، كانت الثواني والدقائق تعربد بدون خجل فتأخذني الغفوة وأسهو ولا تستحيي الساعات مني بل ويمر الوقت بسرعة فائقة؛ فقط بنفس السرعة التي مر بها ونحن بصدد أول موعد غرامي يا حبيبتي. كنت سمرة الغسق التي أنقت السماء، والرونق البهي الذي أضفى مكارم الجمال على الكون، كنت فقط كأهداب الشمس وشعاع القمر، أنت اللآلئ الذي يزين السماء كل ليلة من ليالي آذار حينما تفضح الأرض أسرارها، دائما ما أقول في سريرتي لربما ستأتين يوما من الأيام، كنت أترك الباب دائما مفتوحا وكأنك ستترددين ذات ليلة على منزلي كي أحيا من جديد ويغادرني الفراغ الذي احتل كل أرجائي. حينما يوقد لظى الشوق تسد شهيتي عمدا فأدفع مكرها لتجرع بعض الطعام على مضض، أشرب رشفات من قهوتي المريرة وأحلي بالنهم السرمدي فأحرك بملعقة تحمل معها ذكريات فراقنا المرة، تناقض علاقتنا يذكرني بالقهوة بالرغم من كونها مرة إلا أنها طيبة النكهة لذيذة، كان عزائي الوحيد منديل أبيك المتوفي الذي أحببته أكثر من أي شيء آخر، كنت تخشين عليه من نسمة الريح، يرافق حضنك صباح مساء خوفا أن تزول رائحته التي تحيي لحظاتك مع الأب المثالي الرائع ذو الشخصية الفذة حسب قولك، كانت تضخ الدماء في أوصالك بعد رؤية المنديل بل ويتحرك وجدانك فتفرحين وتعلو البسمة محياك وكأن الحياة انبعثت من جديد، أتذكر حين أخفيت المنديل ذلك ذات مرة، كاد يجن جنونك ودخلت في نوبة بكاء هستيرية لدرجة أنك لم تأكلي الطعام ليومين متتاليين، لم أعرف السبب الذي أرغمني على أن آخذه لكنني أصررت على إخفائه وكأنني عرفت مسبقا أنه الذكرى الوحيدة التي سأحتفظ بها بعدك، أظن أنني أخفيته لكي أحظى بقسط من الاهتمام فأنا أغار عليك من كل شيء يجعلك بعيدة عني ولو كان ابننا الذي لم نكن نحظى به بعد...
مرت الأيام وهدأ صخب عاصفتك الهوجاء وأكدت لك أن المنديل قد قذف في القمامة عن غير قصد مع كل تلك الكراكيب التي تملأ البيت، نسيت الموضوع حينها لكنني لم أنسى مطلقا، تمنيت لو أنكي تدرين أن المنديل يرافقني في كل لحظة وحين، آخذه إلى السينما والعمل بل ويلازمني كظلي حيث ينبعث منه ريحك وعبق ماضيك البهي. ندمت عن هجرك ندما شديدا، ندم يقتل كل الكبرياء ويمحي كل ذرة شهامة، ندمت حقا عن قرار طلاقنا صيف ذلك العام المشؤوم، صدقيني أحس بالأسف الشديد...
Comments