لا تشتري دماءنا
- أسامة الرامي
- 7 يوليو
- 2 دقيقة قراءة
كنتُ ألعبُ مع إخوتي قرب باب البيت.
كانت أمّي تراقبنا من بعيد، تبتسمُ كلما سقط أحدُنا ونهضَ وهو يضحك.
لم نكن نعرف أن السماء تخبئ لنا موتًا قادمًا...
فجأةً، سمعنا دويًّا هائلًا، كأنّ السماء سقطت على الأرض.
ارتجفتُ.
نظرتُ خلفي، فوجدتُ البيتَ يهوي، كأنّه قطعةُ ورقٍ بين يدي ريحٍ غاضبة.
صرختُ باسم أمّي.
ركضتُ نحوها، لكنّ الدخانَ كان كثيفًا، والحجارة تسدّ الطريق.
صرخاتٌ كثيرة...
رأيتُ يدَ أخي الصغير تمتدُّ من تحت الأنقاض. حاولتُ أن أرفع الحجارة عنه، لكن يدي كانت صغيرة، ضعيفة، خاوية...
اقترب الجنود.
وجوههم باردة و عيونهم لا تعرف الرحمة.
سمعتُ أحدهم يصرخ بلغة لا أفهمها، ثم سمعتُ الرصاص...
وأصوات الناس تركضُ، تبكي، تسقط.
كنتُ أبحثُ عن أمي، عن حضنها الذي كان أكبر من كل الحروب.
رأيتها أخيرًا...
ممددةً على الأرض.
عينُها مفتوحةٌ كأنّها كانت تنتظرني، ويدُها ممدودة نحوي، لكنها لا تتحرّك.
اقتربتُ منها.
لم أكن أفهم ما يعنيه الموت.
هززتُ يدها الصغيرة، ناديتُها بصوتٍ مرتجف:
"ماما... قومي... أنا خايف..."
لكنها لم تقم.
ولم تحتضنني هذه المرة.
جلستُ بجانبها.
حكيتُ لها عن لعبي، عن أخي الذي لا يزال تحت الركام، وعن حلمنا الصغير أن نذهب غدًا إلى البحر.
لكن لا البحر جاء...
ولا الغد جاء...
بقيتُ هناك، وحدي، بين جثثٍ صامتة، وأحلامٍ مذبوحة، وساعةٍ واقفةٍ فوق ركام البيت.
كنتُ طفلًا...
لكنّي في لحظةٍ واحدة، كبرتُ ألف عام.
مرّ وقتٌ طويل...
أو هكذا شعرتُ وأنا أجلسُ فوق ركام البيت، أراقب الناس تحمل جراحها، وتحمل أبناءها على الأكتاف بدل الألعاب.
جاءت شاحنةٌ كبيرة، كتبوا عليها بلغةٍ لا أفهمها، ووزعوا علينا بعض العلبِ الملوّنة.
قالوا لنا: هذه "مساعدات".
رأيتُ شعارًا أعرفه...
شعار تلك الشركة التي كانت تعلن عن حلوى نأكلها ونحن نضحك، ونحن لا نعرف أن صاحبها، هناك بعيدًا، يدفع لمن يقتل أمّي وأخي.
مسكتُ العلبة الصغيرة بين يديّ المرتجفتين.
ترددتُ...
كأنني أمسك بقطعةٍ من رائحة الموت.
لم أفهم يومها لماذا بكى جاري العجوز حين رأى الأطفال يتهافتون على تلك العلب.
لكنه اقترب مني، مسح على رأسي بيده المليئة بالتجاعيد، وقال بصوتٍ كسر قلبي:
"لو عرفتم ما وراء هذه الهدايا... لبكيتم بدل أن تبتسموا."
لم أفهم كل كلماته.
كنتُ صغيرًا...
لكنني شعرتُ أن في يدي شيئًا تفوح منه رائحة الخيانة.
نظرتُ إلى الشاحنة وهي تبتعد، إلى العلامات الأجنبية على العلب،
وتذكرتُ صوت الطائرات، وهدير الصواريخ التي مزّقت بيتي، وتذكرتُ عين أمي المفتوحة بلا حركة.
ومن يومها، وأنا أحلم أن أكبر...
أن أصرخ في وجوههم جميعًا:
"لا تقتلوني بابتساماتكم، لا تقتلوا أحلامنا بأيديكم، لا تطعمونا موائد تُمَوّل رصاصات الغدر!"
كنتُ طفلًا صغيرًا يومها...
لكنني حملتُ في قلبي وعدًا...
أن لا أبيع دمَ أمي بثمنِ علبةٍ لامعة، ولا أضحك على حساب بكاء أخي تحت الركام.
"ربما لا نستطيع أن نوقف الطائرات بأيدينا،
لكننا نملك قرارًا: أن لا نكون الوقود الذي يشعل حرائقهم.
كل درهم ندفعه لمن يقتلهم، هو رصاصةٌ أخرى تُطلق على قلوب الأمهات.
قاطعوا الظلم...
فالمقاطعة بداية التحرير...
بداية حياة جديدة لأطفالٍ يستحقون أن يحلموا دون أن يخافوا من السماء.
تعليقات