top of page
بحث

الشرير التائب: ظلام ينجب النور

في كل حكاية، يطلّ الشرير بوجهه الكالح كمرآة معاكسة للبطل؛ هو الظلّ الذي يتغذى على الطموح الأعمى، والجرح الذي لم يندمل. لكن حين يتصدّع جدار الشر المطلق، وحين يطلّ من بين الشقوق بريق ندم أو نزعة إلى التغيير، يتحوّل الشرير إلى كائن آخر: غامض، مزلزل، وغاية في الإنسانية. هنا يولد ما يسميه السرد الحديث بالشرير التائب، ذاك الذي يحمل في صدره صراعًا أكبر من أي معركة خارجية؛ صراعًا مع ذاته، مع ضعفه، ومع شهوة السلطة التي لم تعد تُشبع روحه.

جاذبية هذا النموذج ليست في انتصاره أو هزيمته، بل في ارتباكه، في تلك اللحظة التي يتردّد فيها قلبه بين السقوط والنهوض، بين الخيانة والوفاء، بين الغريزة القديمة وإرادة جديدة لم تتضح ملامحها بعد. إنه الوجه الآخر للإنسان العادي، إذ لا أحد يولد شريرًا خالصًا، ولا أحد يظلّ خيرًا مطلقًا. والشرير التائب يذكّرنا دائمًا بأن الظلال قد تُنجب نورًا، وبأن أعمق الهاويات قد تفتح الطريق نحو الخلاص.


ولعلّ أبرز تجسيد لهذا النموذج في السينما المعاصرة هو شخصية لوكي في عالم مارفل، الذي بدأ كخصم مدفوع بالغيرة والرغبة في الهيمنة، ولم يلبث أن تحوّل مع مرور الزمن إلى بطل مضاد، يواجه ذاته أكثر مما يواجه أعداءه. خلف قناع الخداع والقسوة، يكمن طفل منبوذ يسعى للاعتراف والانتماء، ومع كل هزيمة يكتشف أن السلطة لا تملأ فراغ القلب، وأن الهروب من الظل لا يتم إلا عبر مواجهة النور. إن مساره لا ينقل المشاهد من الكراهية إلى التعاطف وحسب، بل يعيد تشكيل معنى البطولة نفسه. إن المسار الذي اتخذه لوكي لنفسه نابع من كونه الابن المسروق والمتبنى من طرف أودين، لذلك يحتل المرتبة الثانية بعد ثور "إله الرعد"* ووريث عرش أزغارد. إلا أن التغيرات في مواقف لوكي نلاحظها بعد موت أمه فريغا، التي كانت دائما طيبة معه وتعزه وكأنه ابنها الحقيقي. من هنا كانت بداية خلاص لوكي، وتحوله إلى مسار الخير عوض الشر، ليصبح في النهاية الشرير التائب الذي جعلنا نتعاطف معه، ونصيح فرحا بسبب تضحيته لإنقاذ الخطوط الزمنية.


على المنوال ذاته، نجد دارث فيدر في Star Wars، أيقونة الشرّ الذي وُلد من ألم الفقد والخيبة؛ لم يعرف والده، وفقد أمه ثم زوجته وابنيه. مما جعله يصير رمزًا للطغيان واللارحمة، لكن لحظة توبته الأخيرة، حين يختار التضحية بنفسه من أجل ابنه، تجعل من نهايته خلاصًا شخصيًا، وذروة إنسانية تكسر صلابة الصورة التي رسمها لنفسه طيلة حياته، مبينا أنه مهما وصل الشر بالشخص، فإن ذرة من نور الخير تبقى مضيئة في قلبه.


أما في الأدب الحديث، فتكاد شخصية سيفيروس سنيب في Harry Potter تختصر هذا التعقيد كله. فهو الذي بدا لسنوات معلّمًا صارمًا غامضًا، بل خائنًا في نظر الكثيرين حين اختار الانضمام إلى أكلة الموت (أتباع لورد الظلام فولدومورت)، قبل أن يُكشف في النهاية أن كل قسوته لم تكن سوى قناع يخفي حبًّا عميقًا ووفاءً نادرًا لذكرى حبيبته ليلي، التي فقدها أول مرة حين اختارت جيمس بوتر دونه، وثاني مرة حين قتلها فولدمورت. سنيب هو وجه آخر لفولدمورت، الذي يعاني من الفقد الأبوي وغياب الحب في حياته، لكنه قرر التوبة والعودة إلى طريق الخير. إن انكشاف هذا البعد المجهول من حياته جعل توبته أكثر مرارة، وأكثر جمالًا في الآن نفسه، وجعلنا نعشق تضحيته الأخيرة من أجل القضاء على اللورد فولدمورت رمز الشر الخالص.


هذه النماذج جميعها -وغيرها كثير في الأدب والسينيما- تكشف أن الشرير التائب ليس شخصية ثانوية أو تفصيلًا تجميليًا في السرد، بل هو ركيزة جمالية وفكرية تعطي الحكاية عمقها، وتمنح القارئ أو المشاهد نافذة يتأمل عبرها هشاشة البشر، وإمكانية الغفران، وحتمية الصراع الداخلي الذي يرافقنا جميعًا. إن الشرير التائب هو الابن الضال للحكايات، منبوذ في البداية، محبوب في النهاية، لأنه يعكس بصدق رحلتنا البشرية المليئة بالزلات والبحث عن معنى جديد. إنه الوجه الذي يذكّرنا بأن السقوط ليس قدرًا، وأن الانبعاث ممكن حتى في أكثر اللحظات ظلمة. ولعل سرّ جاذبيته أنه ليس غريبًا عنّا، بل هو نحن في لحظات ضعفنا وترددنا، نحن حين نبحث عن فرصة ثانية لنثبت أن النور يمكن أن ينبعث من الظلام، كما تنبعث العنقاء الميتة من رمادها.



*لا إله إلا الله وحده لا شريك له. هذا لقب الشخصية الأسطورية فحسب.


بقلم محمد واحي

 
 
 

تعليقات


Post: Blog2 Post

نموذج الاشتراك

شكرا للتقديم!

© 2020 مجلة الكتاب المغاربة. تم إنشاؤه بفخر مع Wix.com

bottom of page