top of page
بحث

بين الأزقة

ما بين غروبِ الشَّمسِ وطلوع القمر، تَغدو الدارُ البيضاءُ مدينةً سوداءَ مُجَسِّدةً الجانبَ الخفيَّ الذي لا يكون ظاهرًا خلال النهار، كانعكاس مرآةٍ لمدينة غوتام، غيرَ أنَّ هذه الأخيرةَ خيالية لا وجود لها في واقعنا، إلا أنَّ كلَّ ما يقع بها حقيقيٌّ في مدينتنا التي كلُّ شيءٍ بها بعد منتصف الليل مُباح، من المارَّة ومن الذين يقودون سيَّاراتِهم ودرَّاجاتِهم الناريَّة، بين أولئك الذين تأخَّروا عن الدُّخول لبيوتهم، وبين من يُقارع قنِّيناتِ الخمرِ الرَّخيصةَ والذين يترنَّحون بين أرصفة المدينة بعدما طُرِدوا من الحانات، فقط وجوهٌ بائسة وشاحبةٌ تجعل من أصحابها يبدون كالأشباح، ما بين الأزقة التي يُنيرها بَصيصٌ صغيرٌ من ضوء القمر والتي عَجِزَت مصابيحُ الشوارع أن تنيرَ ظُلمتَها أو تكشفَ خباياها، مَرتَعٌ للجريمة والفساد اللَّذين انعكست مَشاهدهُما على عُمران المدينة. وسط أزقَّتها وخلال إحدى الليالي الباردة الممطرة، وجدتُ حانةً تمنح الدِّفْءَ لمُرتاديها، فأَلِفتُ زيارتَها بين الفينة والأخرى، وبينما أجلس فيها وأشرع في احتساءِ بضعةِ كؤوس صرتُ أنظر إلى وجوه هؤلاء الجالسين بمحاذاتي عند مِنضدة المشرب، خصوصًا بعد نهاية يومِ عملٍ بئيس، قصصُهم هنا كثيرةٌ وعميقةٌ في آنٍ واحد، حقًّا تستحقُّ أن تُروى وتُسَمَّعَ للملأ، من علبة الموسيقى هناك في ذلك الرُّكن البعيد عن مكان جلوسي المعتادِ ببضعة أمتار، تَصدح موسيقى جوهر العبادي السيريالية، وهي تمتزج برائحة دخان التبغ والخمر باعثةً في آنٍ واحدٍ جوًّا من الكآبة والسعادة. ما زلتُ أتذكر كلمات إحدى الأغاني التي تخرج من ذاك الصندوق المهترئ، والتي تقول "وش تبين، تجرحين، اِفرحي ما بقى مني أنا غير الجراح".. لقد كانت الكلمات واللحن والصوت مزيجًا للألم الذي يدفع المرءَ إلى أن يبتاعَ الزجاجة، لا كأسًا منها، أملًا في أن ينسى ويتناسى خيباتِ الأملِ المتتاليةَ الَّتي نالت منه... عند مختلف الطاولات توجد أيادٍ مرتجفةٌ تَرفع الكؤوسَ إلى شفاهٍ بالكاد تَنطق، بعضُهم يَغرق في صمتٍ طويلٍ كأنَّما يُفاوض حزنَه، وآخرون يُثرثرون بكلماتٍ متقطِّعةٍ لا يسمعها سوى الفراغ، أما في الزاوية القريبة من الباب فقد أَلِفتُ أن أجدَ "بَّا آحمد" ذلك المسنُّ الذي لا يفارق معطفَه الباهتَ الملتصقَ بجسدِه، وكأنَّما يحاول حمايتَه من بردِ العالم، لا من بردِ الليل فحسب، أمامه كأسٌ ممتلئةٌ لم يلمسها بعد، ينظر إليها وكأنها تحمل في قاعها جوابًا طال انتظاره… أمَّا خلف المنضدة، فتقف الساقية، تلك السيدة التي تحمل في ملامحها مَن أَنهَكَته الليالي المتشابهة، بين صبِّ الكؤوس ومسحِ الطاولات، تُبادلني بين الفينة والأخرى نظراتٍ يَعرفها مَنِ اعتاد الوحدة، في المجمل هي نظراتٌ لا تحتاج إلى كلمات… كان الليل يمضي ببطءٍ شديد، كأنَّ عقاربَ الساعة تتعثَّر وسط هذا الجوِّ المشبعِ بالدُّخان والحكايات، وبينما تنساب الموسيقى، تلك النغمات المشبعةُ بالشَّجن والألم تجعلني أشعر بأنني جزءٌ من مشهدٍ عالقٍ خارجَ الزمن، لا ماضِيَ له ولا مستقبل، مُجَرَّدُ حاضرٍ مبلَّلٍ بالخمر والذكريات.


لطالما تساءلتُ، كم من الأسرار خبَّأتها جدرانُ هذا المكان؟ كم من الدُّموع جفَّت قبل أن تسقط؟ كم من قلوبٍ انهارت هنا دون أن يلحظَها أحد؟ في كلِّ مرة كنت أغادر الحانة، أجد الشارعَ أكثر برودةً مما كان، كأنني أحمل معي شيئًا من حزن المكان، أو كأنَّ المدينةَ السوداءَ نفسَها تلبس وجوهَ أولئك الشَّاحبين الذين تركتُهم وراء ظهري…

 
 
 

تعليقات


Post: Blog2 Post

نموذج الاشتراك

شكرا للتقديم!

© 2020 مجلة الكتاب المغاربة. تم إنشاؤه بفخر مع Wix.com

bottom of page