كنت دوما كالطفل، رغم تراكم الأيام والأسابيع والأشهر والسنوات، لم تنل مني هذه الأخيرة إلّا خدوشا وصدمات، العميقة منها والطفيفة؛ نعم، تلك التي ندَّعي تلاشيها مع مرور الوقت، تلك التي لم تتلاشى يوما، وما زادها الزمن إلّا غورا !
أعلم أننا غرباء، غرباء في تغريبنا، رغم هاته الاِختلافات العديدة التي تكاد لا تُحصى ولا تلم، نظل نتشابه في إنكارنا، إنكارنا لتلك الندوب التي تستدعي التعايش معها، نحاربها كما يحارب الجندي المستعمر القوي الرديء، الذي لا يرضى حاكما ولا محكوما، ولا يريحه منتصرا كان أو مهزوما، فهي تشبهه في تمرده وعصيانه، طاغية على النفس، ثائرة لا تشفقها لوعة و لا دماء. تكاد تقطع الأفئدة متدفقة، فتفيض وسط صمت ليلة ممطرة لا ندرك إن كانت ساكنة أم صاخبة، أو في وسط حركة مفرطة وضوضاء مكتومة، أو ربما بعد يوم مشحون بالذكريات، الضغوطات أو الخيبات. وكَكُل مرة تخرج الندوب "المنسية " كالزائر المفاجئ، تطفو فوق سطح الروح الواهنة على حين غرة، حاملة معها كمشة من المشاعر المبعثرة ككرة خش متشابكة.
كنت دوما كالطفل في حساسيته وإحساسه، فلم أدرك يوما ما أحسست به حقا ولم أتحكم يوما في تفريطي بهما، وما أدركت ثمن "هذا " الشيء المهول الذي يصفه البشر ب"النقاء" إلّا عندما اضْطٌررت للِانغماس في "غابة " لا قوانين لها بقلب طفل "خالص وطاهر".
كنت دوما كالطفل، أتوه وسط الحشد، لا أدري أين أوَجه خطواتي، كالطفل الذي ينفجر باكيا ضائعا بين أقدام المارة، لا يكاد يرى ولا يسمع، فالكل منغمس في أشغاله ومسؤولياته، مفتونون ومسرعون، كأن الأجل يجري وراء ظهورهم، حتى التفت واحد من المارة بغتة! وناظر محياي المنهمك بالبكاء والحيرة بكل هدوء وثبات، وانحنى ليبلغ ركبتيَّ الصغيرتين بابتسامة دافئة وواثقة، وجهه يوحي بالوقار والطمأنينة، عيناه تعادل القمر في تألقه وتلألؤه، وجنتاه موردتان ترتسم عليهما آثار شفاهه المخطوطة، وجه منير ينفي الشك والتهم، كطيف مر أو خيال خفيفُ الظل مثقل، لينتشلني من وحدتي وارتباكي إلى ضفة الأمان و الأمل. كأنه ريح علم لا ريح تنشره، أو شمس صيف لا سراب يحكمه.
وظهرت أنت من وسط الحشد، وأنا كالطفل الضرير التائه، كعابر سبيل منسي، كمهزوم من حروب السنين والأفكار، كمسجون تَعوِّد سجنه وخشي حريته، ككاتب بلا إلهام، كسماء بلا نجوم، منطفئة ومعتمة، كمتحف بلا فن، خال من الجمال والإبداع، كرسام دون لوحة، لا مساحة له في أن يعبر عن فنه، كشعب دون وطن، يظل دوما مرتحِلا لا أرض له ولا موطن. وانتزعتني من وسط الحشد المرهب بكل ما تملكه من شجاعة، وأصبحت لي حريتي، وإلهامي، ونجومي، وفني، ولوحتي، ووطني. وأصبحتُ كالجندي الوفي الذي يخاف على وطنه أن يُخان أو يُستعمر.
وإن سألتني يوما عن حبي، فتذكر أنك لي كأشرعة السفينة، لا تصلح واحدة إلّا بصلاح الأُخرى، وإن تمزقت أشرعتها تتعطل السفينة رغم أَهَلِيَّتهَا، وحتى إن اشتدت العواصف فمعا يقويان على عبورها.
وإن سألتني عن حبي يوما، فتذكر أنني الطفل التائه و أنت بر الأمان.
Comentarios