الانكسار بين المبادئ والواقع: رحلة البحث عن الذات في زمن الضياع
- اعزوزو وئام
- 31 يوليو
- 2 دقيقة قراءة
كانوا يومًا ما يشعلون الحلم في عيوننا، يرسمون للغد معنى، للكرامة عنوانًا، وللحياة سقفًا مرتفعًا لا تحدّه سماء. أولئك الذين حملوا شعارات الصدق والنزاهة والحق، صاروا اليوم أول من خلعها عند أول اختبار، وكأن المبادئ كانت مجرد ديكور لفظي على خشبة لا أحد يشاهد عرضها. بعض الواضحات أصبحنا نخجل من المطالبة بها، لا لأنها فقدت قيمتها، بل لأن من كنا نراهم أهلًا لحملها تحجرت أدمغتهم. أصبح التذكير بها أشبه بإزعاج لا ضرورة له، أو كأننا نصرّ على زرع وردة في صحراء من البلاستيك. يصدمني هذا الانفصال بين ما كان وما أصبح. فكيف يتغير الإنسان إلى هذا الحد؟ وهنا تدور في ذهني جملة محمود درويش: هل أنا فعلًا أنا؟
أكاد أرددها كلما نظرت إلى وجوهٍ كانت تُشعل الهمة في قلبي، واليوم تُطفئ حتى بريق السؤال. لقد تغير سقف الطموحات، لا لأن العالم ضاق، بل لأن النفوس ضاق أفقها وصرنا نحيا على هامش المبادئ، نبرر الهزيمة ومآلاته الواقعية حتى بات الحلم نفسه ترفًا، لكن رغم ذلك ورغم ما تبقى من رماد ثمة شيء صغير في الداخل لا يزال يرفض الركوع، ربما هو ما تبقى من “أنا” الحقيقي.
لقد أصبحنا في زمن تتغير فيه المبادئ بتغير الطقس الاجتماعي. ما كان يومًا يُعدّ خطّا أحمرا، صار اليوم رأيًا نسبيًا، وما كان يُحترم كقيمة مطلقة، أُسقط من مكانه ليتحول إلى عبء أو حتى إلى سذاجة. أصبح قول الحقيقة تصرفًا متهورًا، والتمسك بالكرامة موقفًا متعجرفًا، والإخلاص في العمل غباءً إداريًا في زمن النجاة فيه للأكثر قدرة على الالتفاف. المجتمع تغيّر، نعم، لكن التغير لم يكن نحو التجدد بل نحو التحول؛ تحول أفرغ الأشياء من معانيها. فأصبحت الصداقة مصلحة، والحب صفقة والعائلة مرهونة بعدد التحويلات البنكية، لم يعد الناس يبحثون عن منطق المعنى بل عن مكسب اللحظة، صار الصامت حكيمًا لأنه لا يدخل في المواجهة، وصار المستسلم ذكيًا لأنه لا يتعب نفسه، وصار من لا مبدأ له هو الأكثر مرونة وقابلية للنجاح. وفي خضم هذا الانحدار، ينكسر الكثير من الطموحين في صمت، لأنهم يشعرون أنهم يعيشون غرباء وسط عوالم تخلّت عن الإيمان بالحلم. من أراد أن يرفع رأسه في زمن الركوع يصير عبئًا، ومن أراد أن يبني من قلب العدل يُطرد كأنه خطر. وهنا نعيد طرح السؤال: هل أنا فعلًا أنا؟ أم أن المجتمع يعيد تشكيلنا، يحاصرنا بالأعراف المقلوبة، ويعيد تعريف النجاح بما يناقض جوهر الإنسان؟ لم تعد المعركة مع الخارج فقط، بل مع الداخل الذي يحاول النجاة من العدوى. أن نحافظ على مبادئنا لا يعني أن نظل مثاليين، بل ألا نبيع أنفسنا في المزاد. أن نتمسك بالطموح لا يعني أن نحلم بالمستحيل، بل أن نرفض أن نعيش بوجه غير وجهنا.
أنا، الذي لا زال يؤمن أن الحق ليس موضة، وأن الطموح لا يُقاس بسعر السوق، وأن الإنسان بلا مبدأ هو ظل لا يعكس إلا الفراغ.
تعليقات