top of page
بحث

العدالة الدولية بين الانتقائية والصمت الإجرامي

‎في عالمٍ يحترف رفع الشعارات أكثر مما يحترف إنقاذ الأرواح، تصبح العدالة الدولية مسرحًا مريبًا يعلو فيه صوت القانون حين يشاء الأقوياء ويصمت حين يبكي الضعفاء. والمؤسسات التي وُلدت لتكون حصنًا للحق تحوّلت شيئًا فشيئًا إلى هياكل رمزية تحترف التنديد وتتقن الانتظار وتغرق في البيروقراطية بينما يشتعل العالم من حولها.

‎من لا يتذكر مشهد تأسيس المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي عام 2002؟ ذلك اليوم الذي صُوّر للعالم كما لو أنه لحظة ميلاد لعصر جديد من المحاسبة الإنسانية والعدالة العابرة للحدود. لكن الواقع الذي تلا تلك اللحظة كشف أن “العدالة” ليست دائمًا نتاجًا للقانون، بل كثيرًا ما تكون رهينة له. كما قال مونتسكيو ذات مرة:

“Une chose n’est pas juste parce qu’elle est loi mais elle doit être loi parce qu’elle est juste”

‎أي أن القانون لا يُضفي المشروعية على الفعل إن لم يكن الفعل عادلاً في جوهره.

‎نظريًا، كانت المحكمة ستعاقب كل من يرتكب جرائم ضد الإنسانية أو جرائم حرب أو تطهير عرقي. لكن عمليًا، تحولت إلى أداة ناعمة في يد الجغرافيا السياسية. تمّت محاكمة رؤساء أفارقة بصرامة، بينما ظل القادة المتورطون في غزو العراق أو جرائم غزة أو التطهير في ميانمار محميين بصمت المجتمع الدولي وتلك الابتسامة الدبلوماسية القاتلة التي تُجيد دفن الضمير.

‎العدالة الدولية إذًا لا تعاني فقط من الانتقائية، بل من الصمت الإجرامي. فحين تُرتكب جريمة واضحة موثقة يُعجز عن تسميتها باسمها، لا يعود الصمت حيادًا، بل يصبح تواطؤًا.

‎قال نيتشه بدقة قاسية:

“Le droit n’est que la volonté du plus fort élevée au rang de loi”

‎فإذا كان القانون يُشرّع بناءً على إرادة الأقوياء، فأين يمكن للعدالة أن تعيش؟ في النصوص؟ في الخطب؟ أم فقط في ضمير من لا سلطة له؟

‎الأمثلة على هذا الصمت كثيرة حد الألم. كيف يُمكن للمحكمة أن تغض الطرف عن مجازر تُبث على الهواء مباشرة؟ عن قتل الأطفال في فلسطين؟ عن الحصار الممنهج الذي يُمارس كعقوبة جماعية؟ بل كيف يمكن لمنظمة أُنشئت لمحاكمة مجرمي الحرب أن تعجز حتى عن تسميتهم؟

‎هنا تتفجر أزمة أخلاقية عميقة. العدالة الدولية ليست مجرد نظام قانوني، بل تعبير عن الضمير الجماعي للبشرية. وإذا مات هذا الضمير، فإن المؤسسات تصبح واجهات لا أكثر، تُستخدم لتبرير الظلم باسم السيادة أو المصالح أو الاستقرار.

‎في لحظة كهذه، تبرز كلمات ألبرت كامو بنبرة صارخة:

“La vraie générosité envers l’avenir consiste à tout donner au présent”

‎فإذا لم نعطِ للحق صوته الآن، فماذا سنترك للأجيال القادمة؟ خُطبًا مؤرشفة؟ تقارير مؤجلة؟ ضمائر خاملة؟

‎اليوم، العدالة الدولية على محكّ وجودي. فإما أن تعيد تعريف نفسها باستقلالية تامة عن السياسة، أو تتحوّل إلى أداة تجميل قبيحة في يد الأقوياء.

‎ليس عارًا أن تكون المؤسسات عاجزة أحيانًا، لكن العار الحقيقي أن تتواطأ باسم الصمت وأن تدّعي الحياد بينما يُذبح المبدأ.

 
 
 

تعليقات


Post: Blog2 Post

نموذج الاشتراك

شكرا للتقديم!

© 2020 مجلة الكتاب المغاربة. تم إنشاؤه بفخر مع Wix.com

bottom of page